×

السّرد والدلالة – قراءة في المجموعة القصصية رائحة الأمكنة / للقاصة العراقية ليلى عبد الواحد المرّاني/ بقلم: منذر فالح الغزالي/ سوريا

السّرد والدلالة – قراءة في المجموعة القصصية رائحة الأمكنة / للقاصة العراقية ليلى عبد الواحد المرّاني/ بقلم: منذر فالح الغزالي/ سوريا

السّرد والدلالة – قراءة في المجموعة القصصية رائحة الأمكنة

للقاصة العراقية ليلى عبد الواحد المرّاني

الكاتبة ليلى مراني

بقلم: منذر فالح الغزالي

مدخل:

إذا كان الشعر نصاً ذاتياً، عماده التخييل، ولغته مخاتلة منزاحة ٌعن قواعدها، منسلخاً عن واقعه، فإنّ النص السردي –القصة والرواية- هو نص موضوعي بامتياز، يمتح مادته من الواقع، عنصره التخييلي يكمن في بنيته الكلية، متمركزاً في حركة الأحداث ومصائر الشخصيات التي تحدّدها رؤية الكاتب.

والنصّ الأدبيّ على العموم نصٌّ متعدّد المستويات يستلزم تعدداٌ في مستويات القراءة، من هنا ستكون قراءتنا في المستوى السرديّ من حيث علاقته بالراوي من جهة، وعلاقته بالحدث من جهة أخرى، وما يؤدّي إليه ذلك المنهج من إشاراتٍ إلى البنية الدلالية التي تمثّل غاية الحدث وجوهره.

بناء الحدث القصصي

يمكننا، منهجياً، تقسيم السرد إلى نمطين، حسب بنية النص والتقنيات التي استخدمها الكاتب، وهذا التقسيم منهجيٌّ بحت، لا يعبّر عن قيمةٍ، أو تفضيل أحد المحورين على الآخر.

أولا: نمط السرد التقليدي

حيث يتولّى فيه الراوي العالم بكل شيء سرد الحكاية بصوته المنفرد، متدخّلاً في كلّ تفاصيل النصّ السرديّ وجزئيّاته، يتصاعد فيه الحدث خطّيّاً من المقدّمة إلى الذروة، ثم النهاية وخاتمة القصة، ويهيمن فيه ضمير الغائب. وقد سيطر هذا الأسلوب على معظم نصوص المجموعة القصصية.

ثانياً: محور السرد الحداثي

يتميّز الأسلوب الحداثي في السرد بظاهرة تعدّد الأصوات، سواء بالحوار، أو المونولوج. وهذا النوع من السرد يمتاز بانزياح السرد عن الوصف الخارجي متجهاً إلى التصعيد والتعقيد، ويقترن بالسرد بضمير المتكلّم، الذي يسمّى الراوي المشارك، حيث تتولى الشخصية الرئيسية سرد الحكاية. نجد هذا النمط من السّرد في قصص: ساقطون، كريستال، نوارس تائهة، مطبّات…

بنية السرد

اتّخذ السرد في المجموعة القصصية “رائحة الأمكنة” للقاصّة العراقيّة المغتربة ليلى عبد الواحد المرّاني مظاهر متعدّدةً تتوزّع بين السّرد المباشر الذي يسم أغلب القصص، والسرد الممسرح الذي يمهّد فضاء القصّ لحركة الشخصيات من خلال التركيز على العناصر الأساسيّة في الوصف المكانيّ أو الزماني، ويحدّد الملامح الاجتماعيّة والنفسية لشخصيّات الحكاية. ويمكننا تلمّس تلك المظاهر السرديّة على الأخصّ في نصّ ”ضياع“، حيث استهلّت الكاتبة النصّ بتأثيثٍ زمانيٍّ- مكانيٍّ يدخِل القارئ ليس فقط إلى فضاء الحكاية وحال شخصياتها، إنما تتملّكه حالةٌ شعوريّةٌ يدخل معها، منذ مستهلّ القصة، إلى مسرح الحكاية، يشعر بأنه يعايشها، ويفهم سلوكات شخوصها… “في ليلةٍ حالكة السواد، يزيدها وحشةً نباح كلابٍ سائبةٍ ، يمزّق عتمة الليل الموحش… وبيوتٍ قديمة متهالكةٍ تحتضن بعضها كي لا تتهاوى، غارقةٍ في صمتٍ حزين”.

وفي قصة نبتة شيطانية، أدخلتنا الكاتبة إلى مسرح الحكاية من خلال استهلال وصفيّ للمكان في غاية الروعة، إذ جعلتنا نقترب رويداً رويداً منه، كأننا نمشي رفقة  “الأستاذ ثابت” الذي تدخلنا أيضاّ في عالمه الغامض منذ الجمل الأولى، فهي لا تكتفي بالتأثيث المكانيّ للحكاية، إنما تشحن فضولنا في التعرّف على هذا الرجل الذي رافقناه منذ البداية، والذي ظلّ بالنسبة لعارفيه “الرجل الغامض”… “أصبح حضوره من الثوابت التي اعتاد عليها روّاد مقهى الواحة الذي يقع في نهاية شارعٍ طويل تحفّ يه أشجار الكالبتوس والدفلى، يخترق وسط المدينة منعطفاً إلى ساحةٍ ترابية واسعة اتخذها أولاد الحيّ ملعباً لكرة القدم. كان عليه أن يمرّ بهذه الساحة ويسمع تعليقات الصغار وضحكاتهم الصاخبة وهم يشيرون إليه…”.

وتبلغ حداثة السّرد ذروتها الفنّيّة والجماليّة باستخدام نسق التضمين الحكائي، إذ يصبح السرد وحداتٍ سرديّةً متداخلةً في الوحدة السرديّة الأمّ، متعاضدةً معها ومرتبطةً بها ارتباطاً عضوياّ، دلاليّاً ووظيفيّاً، كما في قصّة “طوق الياسمين“، إذ تتداخل الحكايتان لتصبحا وجهين متقابلين متناقضين، يكملان قصد الكاتبة من النصّ انطلاقاٌ من مقولة الضدُّ يظهر حسنَه الضدُّ. فدوروثيا، المرأة الإنكليزية التي تزورها بطلة القصة للعزاء بوفاة زوجها فلا تجد من مظاهر العزاء إلا صورةً صغيرة للزوج معلّقةً على جدار ضيّق يدلّ على إهمالٍ نفسيّ وعاطفي، بينما صور الكلب الكبيرة تحتلّ الجدران الأربعة. وعلى النقيض من ذلك، كانت خيريّة، بطلة الحكاية المقابلة، إذ “قصّت ضفيرتيها الطويلتين وهامت على وجهها تجوب الشوارع، تلاحقها اللعنات والإشاعات…” بعد موت زوجها.

أو نسق التضمين الذي يأخذ شكل الترصيع كما يسمّيه تودودورف حيث يتولّى التعبير عن محتوى الشخصية العميق وكوامنها النفسيّة أو رؤيتها للعالم، وقد اتّخذ هذا النسق السرديّ، في المجموعة القصصيّة، مظهر التضمين المرآوي على هيئاتٍ مختلفة، كهذيان بطلة القصة “ساقطون“… “انخلعت ذراعاي ونيت لي جناحان… تبخّر جسدي قطرةً قطرةً في الفضاء… أحلّق، عالياً أحلّق… ريحٌ عاتيةٌ تدفعني إلى الأعالي… أرى أبي محلّقاً يبتسم لي، يحيط به سرب طيورٍ ترفرف بأجنحةٍ كريستاليّةٍ شفيفة…”

وكذلك استخدامها تقنية المرآة معادلاً حسّيّا لأفكار البطلة في قصة “رقصة حبٍّ أخيرة“، حيث، وبمهارةٍ سرديّةٍ عالية استطاعت أن تتوارى خلف مرآة البطلة ومناجاتها الداخليّة لنقل رؤيتها الذاتية، دون أن ينكشف وجودها الخاصّ، أو تبدو دخيلةً على القصّة، فارضةً نفسها عليها وعلى القارئ…. “نعم، ماذا سيفعلون بها، هم يؤرشفون أيامهم وأعيادهم وحتى ضحكاتهم على أجهزتهم الذكيّة، لم يعد للصور الورقيّة حيّز في عالمهم الذي يلهث وراء كلّ جديد…”

وتتخذ تقنية الترصيع أشكالاٌ متعدّدةً في المجموعة القصصيّة رائحة الأمكنة، إذ يتمظهر بمظاهر شتّى، فإنّ الكاتبة، لا تني تبتدع تقنياتٍ سرديةً شبيهةً بالترصيع، غير أنّها ترصيعاتٌ مركّبةٌ، ذات أثرٍ تصويريٍّ عميق، متّخذةً من المهارة في الوصف واستثماره حتى الطاقة القصوى وسيلةً في بثّ رؤاها بأسلوبٍ ذكيّ، لايقلّ جماله عن أهمّيّته الدلاليّة، حين تجمع بين صورتي المكان والشخصية في قصّة المهرّج… “عبر وصف رائع تظهر فيه ذات المهرّج نوراّ مشعّاً في عتمة غرفته، سعيدةً بالعطاء رغم تعبه، ممتلئةً بالناس رغم وحدته…”سعيدٌ هو لتلك السعادة الصغيرة التي يرسمها على وجوههم لزمنٍ قصير، حتّى وإن عاد بعدها وحيداً، متعباً إلى غرفته المعتمة… يقبّل وردة الصغير… ويقضم سندويشاً بارداً…”

بنية الزمن الحكائيّ

تنوّعت بنية الزمان في المجموعة القصصية بين البنية التقليدية، حيث يتصاعد الحدث في مسار زمنيّ خطّيٍّ، وبنيةٍ حداثيّة، ينتقل فيه زمن الحكاية إلى نقطةٍ زمانيةٍ سابقة عبر استخدام  تقنيّة الاسترجاع، كما في قصص ساقطون، نوارس تائهة… ، أو الاستباق إلى زمنٍ قادم عبر تقنية الاستشراف. في قصة المهرّج نقرأ: “سيخلع ملابس البهلوان، وسيعود ماشياً بتثاقل إلى غرفته الباردة….”

الزمن الحلزوني

تكشف بعض قصص رائحة الأمكنة عن مهارةٍ فنيّةٍ عالية لدى الكاتبة ليلى عبد الواحد المرّاني باعتمادها بنيةّ سرديّةً متطوّرةً فنّيّاً في استخدام تقنياتٍ سردية عالية في بناء الحدث على مستوى بنية الزمن، حيث يخترق فيه القصّ فضاء الزمن الحاضر ليعود إلى زمنٍ آخر ماضٍ، ثمّ العودة إلى الزمن الحاضر… وهكذا يراوح زمن الحكاية بين حاضرٍ وماضٍ بحركةٍ صاعدةٍ- هابطة. نرى مثال ذلك جليّاً في قصة نوارس تائهة، حيث يراوح الزمن بين زمانين متداخلين، زمنٍ حاضرٍ محايثٍ للقصّة معاصراً لها، وزمنٍ ماضٍ. لكنّ روعة بناء الزمن القصصي تتكشّف بغاية الكمال في قصة ساقطون، حيث الانتقال الدؤوب بين طبقاتٍ زمنيّةٍ متفاوتةٍ في البعد عن زمن الحكي، زمنٍ راهنٍ محايثٍ للحكاية، وزمنٍ، أو أزمنةٍ ماضيةٍ تؤسّس لها، وتكشف بجملٍ قليلةٍ شخصيّة المحقّق المجهولة، وتدفع الحكاية خطوةً إضافية نحو التأزّم، يعود بعدها قليلاً للحاضر، ليرجع بعد سردٍ قصيرٍ إلى طبقةٍ زمنيّةٍ أخرى، كاشفاً عن عناصر جديدةٍ تضيف لشخصيّتي القصّة الرئيسيّتين، والرمزيّتين أيضاً، المحقّق والراوية، عناصر إضافيّة، موسّعاً بقعة الضوء الكاشفة لفضاء القصّة، ومضيفاً عناصر جديدة للرموز والإسقاطات الاجتماعيّة والسياسيّة التي تملكها تلك الرموز.

 تنوّع البؤر السردية

جمال السرد وروعته في (رائحة الأمكنة) تظهر أشدّ وضوحاً باعتماد الكاتبة بؤراً سرديّةً متعدّدة. فإلى جانب تمكّنها من الكشف عن عوالم شخصياتها عبر الحوار المباشر أو السرد الموضوعي والانطباعي في قصة ساقطون تتنوّع البؤر السرديّة بين الراوي العالم وبين الراوي المتكلّم، وبين العرض الحواريّ، وكذلك استخدام المناجاة (المونولوج) استخداماً يكشف للقارئ كوامن الشخصيّة ومعاناتها الداخليّة، دون أيّ تدخّلٍ من الخارج.

تبدأ قصة ساقطون بعرضٍ حواريٍّ قصير… “– كفى… أنزلوها”، ثمّ تنتقل بؤرة السّرد إلى الراوي العالم بكلّ شيء، لتعود إلى عرضٍ حواريٍّ طويلٍ نسبيّاً بين شخصيّة القصّة الرئيسيّة وشخصيّةٍ أخرى دعتها الكاتبة “رفيقتها المقرّبة” وظّفتها سرديّاً بشكلٍ مبهرٍ في عرض أفكار البطلة ومشاعرها؛ ثمّ يعود السرد إلى الراوي العالم، ليتناوب سرد الحكاية بين العرض الحواريّ والسّرد الموضوعيّ، لتدخل بعد ذلك الشخصية الرئيسية في هذيانها شارحةً حالتها الجسديّة ومعاناتها النفسيّة، في تبادلٍ مستمر لبؤرة السّرد حسب حاجة الكاتبة وقصدها ورؤيتها أيضاً، لندخل –قرّاءً- في حالة إيهامٍ عظيم بغياب الكاتبة وابتعادها عن حركة الشخوص، وبأننا إزاء عرضٍ حكائيٍ خالص، حتى نصل إلى  نهايتها التي تحمل رؤية الكاتبة وموقفها… “تلملم نزيف ريقها الناشف… تبصقه في وجهه دماً متخثّراً بالحقد والاحتقار…”. نصل إليها معزّزين بقناعةٍ راسخة، بأنها النهاية الحتميّة، أو الوحيدة، من معايشتنا لحكايةٍ نابضةٍ بالحياة، متنوّعة البنى والأساليب السرديّة، استطاعت الكاتبة، وبمهارةٍ فنيّةٍ عالية، أن توهمنا بحياديّتها… ونجحت في ذلك أيّما نجاح.

البنية الدلاليّة

يلفت انتباه القارئ لنصوص المجموعة القصصيّة جماليّات الوصف وعمق الفضاءات والتصاقها بواقعٍ متخيَّلٍ يضيف للحدث أبعاداٌ غير ملموسة، وللشخصيّات عمقاً نفسياّ ووجدانيّاً، واللجوء إلى الترميز الذي تكشفه سيرورة الأحداث، أو تشير إليه. تلك الرموز التي حملتها بعض عناوين القصص ليكون العنوان مشاركاً أساسيّاً في عرض البنيّة الدلالية، للنصوص، وهي بنيةٌ مأساوية في مجمل قصص المجموعة.

من تلك العناوين الموحية أشد الإيحاء, والحاملة لإسقاطات اجتماعية وأخلاقية على سبيل المثال لا الحصر: عفن، ساقطون، نوارس تائهة، صرخة قدم…

ويبلغ الترميز مداه في أنسنة الأشياء، بل وجعلها بطلة القصّة الوحيدة وراويتها، كما في قصّة كريستال، من خلال رصد حكاية صورةٍ مرسومةٍ على لوحةٍ من قماش، تتحكّم إرادة الفنانة بوجودها منذ البداية، ثمّ تملك قرار شكل هذا الوجود ومكانه، لننتظر، مع الصورة، وفي سردٍ شيّق، مسيرة هذا الوجود منذ لحظة الخلق الأولى حتى النهاية، في نصّ فلسفي يحكي حكاية وجودنا ذاته، وكيف تتحكّم بنا إرادةٌ أقوى من إرادتنا ورغباتنا وطموحاتنا، وتتقاذفنا صدفٌ متعاقبةٌ، لتقرّر مصيرنا صدفةٌ ما من بين احتمالات لا حدود لها، فنكون إمّا في صدر “صالةٍ كريستاليّة”، أو مرميّين في قبوٍ معتمٍ يأكله الغبار، وتحيط بنا عناصر أخرى رمتها صدفٌ أخرى حطاماً في الغرفة المعتمة، وكان لعربة الأطفال التي  جاورت اللوحة في مصيرها رمزيّةً كبيرة.

 إنّ هذا العالم التراجيدي الذي يطغى على فضاءات القصص، والنهايات المأساوية التي تحكم أغلب الشخصيّات، لا بدّ أنها اكتسبت ملامحها من تجربةٍ وجوديّةٍ وسيكولوجيّةٍ كامنةٍ في لا شعور الكاتبة، والمقصود بلاشعور الكاتبة هو اللاشعور الفردي والجمعيّ معاً. وبالتالي تكون نصوص المجموعة  صورةً لواقعٍ حكم التجربة الوجوديّة لمجتمعٍ واقعيٍّ عايشته الكاتبة في زمانٍ ومكانٍ واقعيّين، رسمته الكاتبة سرديّاً ببراعة فائقة، امتزج فيه الواقع بالخيال، بانسجامٍ تامٍّ، وتلاقحت في خضمّه الرؤى والبنى الفكريّة والنفسيّة بأسلوبٍ حكائيٍ متعدّد التقنيّات، من خلال شخصيّاتٍ مختلفةٍ، متباينةٍ من حيث موقعها الاجتماعي، وبنائها النفسيّ والفكريّ وميولها. لتنتج عن ذلك كلّه مجموعة قصصيّة ذات مبنىً حكائيٍّ بالغ التأثير.

منذر فالح الغزالي

ألمانيا- فاختبيرغ

26/ 04/ 2020

Please follow and like us:
Pin Share

About The Author

RSS
Follow by Email
Contact