×

كتابة ألم، آمال كتابة، وعوالم تلق رحبة…//قراءة في ديوان “جراح الغربة” للشاعر محمد نعيم بربر /لبنان… بقلم الناقدة زهرة خصخوصي/تونس

كتابة ألم، آمال كتابة، وعوالم تلق رحبة…//قراءة في ديوان “جراح الغربة” للشاعر محمد نعيم بربر /لبنان… بقلم الناقدة زهرة خصخوصي/تونس

                                   ديوان “جراح الغربة” لمحمد نعيم بربر

                                     كتابة ألم، آمال كتابة، وعوالم تلق رحبة…

                                                                          بقلم الناقدة زهرة خصخوصي/ تونس

تصدير:

الشاعر محمد نعيم بربر

      أَنَا الْجَرِيْحُ عَلَى صَمْتٍ تَكِلُّ بِـــــــهِ

      كُلُّ الْجِرَاحَاتِ ، فَانْطِقْ أَيُّهَا القَلَــــمُ

      عَهْدَي بِكَ الْيَوْمَ بَتَّـــارًا ، فَخُذْ بِيَدِي

      مِنْ قُمْقُمِ الذُّلّ وَاضْرِبْ أَيُّهَا الصَّرِمُ

                                                محمد نعيم بربر(  قصيدة “جراح”)

مدخل:

صارت الكتابة الشّعريّة الحديثة منذ نهايات القرن الماضي فعلا يربك القارئ، باختلاف وجوه تشكّلها، وتعدّد مواضيعها، وتقاطعها مع فنون الكتابة الإبداعيّة الأخرى في نزوع تجريبيّ “جامح” من طرف الشّعراء. لكنّها تظلّ ذلك القول الإبداعيّ الأعلقَ بانفعالات المبدع العاطفيّة والنّفسيّة، والأقدر على تقديم تلك الانفعالات ومرجعيّاتها وانتظارات البوح بها، إلى القارئ، تلك الانتظارات التي أضحت مع الحداثة الأدبيّة والنّقديّة تتجاوز إحداث الأثر العاطفيّ والنّفسيّ بمعاني النّصّ وموسيقاه، إلى تبيّنِه العوالمَ الدّلاليّة العميقة في الخطاب الشّعريّ ومشاركة المبدع آداء رسالته الفكريّة التي تنوء بها كتابته.

ولعلّه انطلاقا من هذه السّمات الأدبيّة للكتابة الشّعريّة المعاصرة، صارت مواضيعها منبع إشكاليّات يطرحها القارئ، وتضطلع المؤسّسة النّقديّة بوظيفة الاشتغال بها والبحث فيها تذليلا لصعوبات التّلقّي وتيسيرا لمجرى حركة التّحديث الشّعريّ التي لا تهدأ.

ولعلّ المقبل على ديوان “جراح الغربة” للشّاعر اللّبنانيّ محمّد نعيم بربر قراءةً واستقراءً نقديّا، يلفي نفسه أمام إشكاليّات شتّى يطرحها هذا الدّيوان منذ العنوانِ،عتبتِه الأولى. وهي إشكاليّات تتعلّق بالكتابة مواضيعَ، وأبنيةً فنّيّة، تحديدا لهويّة القصيدة، وتأصيلا لمرجعيّات الكتابة وانفتاحا على مقاصدها…

فالشّاعر يدفع بالقارئ منذ عنوان ديوانه إلى معجم الألم، ألما مضاعفا يقترن فيه وجع الجراح بوجع الغربة، فيلفي هذا القارئ نفسه مقبلا على ما يسمّى بكتابة الألم، هذه الكتابة الموصولة بالانفعالات كتابة وتلقّيا، ألما يُعاش فيُكتَب، ثمّ يُقرأ فيؤلم القارئ. وهو ما يجعل هذه الكتابة تطرح العديد من الإشكاليّات لعلّ أهمّها ما يلي:

كيف كتب الشّاعر محمّد بربر “جراح الغربة”؟

أيّة غربة يألَم لها الشّاعر فيكتبها؟

هل نحن أمام كتابة انفعالات تجاه ألم معيش ذاتيّا، أم هي انفعالات تجاه ألم خارج عن الذّات الشّاعرة؟

لمَ يكتب الشّاعر الألم؟ ولمن يكتبه؟

هل كتابة الألم شعريّا ضرب من ضروب تحديث القصيدة العربيّة، أم هي إملاء من إملاءات المرجع المادّيّ الواقعيّ على الكاتب تأصيلا للفعل الإبداعيّ في سياقه التّاريخيّ نفسيّا واجتماعيّا؟

 هل على الشّاعر تعلّم كتابة الألم لنجعل من الوجع فنّا؟ أم أنّ الألم يوجّه القريحة لتكتبه، ويملي عليها أبجديّات تشكيل صوره؟ أم تظلّ كتابته انفعاليّة اعتباطيّة غير مفكَّر فيها من طرف الشّاعر، غير متدبِّر لها؟

 1 ـ الألم وعتبات الكتابة:

*عتبة العنوان:

ارتأى الشّاعر محمّد نعيم بربر أن يجعل العتبة المدلفة إلى عوالمه الشّعريّة في ديوانه هذا مركّبا إضافيّا يتضامّ فيه مفردتان حمّالتيْ دلالة الألم وهما كلمة “جراح” وكلمة “الغربة”، ليدفع بفعل التّلقّي نحو تصوّر أوّليّ لمتون القصائد يحدّها بتيمة أوجاع المغترب زمن مكابدة تجربة الغربة وآلامها، وزمن ملازمة آثار ندوب جراح تلك الغربة في النّفس للذّاكرة، وجعا مستعادا ترمّدت محارقه لكنّ مرارة ترمّدها ظلّت عالقة لم يذْرُها النّسيان.

وما اكتفى الشّاعر بعتبة العنوان الجامع “جراح الغربة”، بل جعل التّدلال على كتابته الألم شعريّا مبثوثا في أكثر عناوين قصائده عددا: عقاب الغربة، خيبة الأماني، جراح، غربة، الغربة القاتلة، جراح الشّوق، سراب، صدى الصّمت، دمعة وكبرياء، غضب البحر، رهين مشاعري،  جهاد المحارب،  معادلة جائرة،  تقيٌّ وفاجر،  حكم القلب،  رفقاً أيها البشر،  ورد وشوك،  حصاد الغربة،  طبول الجهل،  صقيع القلب،  إبتهالات غريب،  الشّمس الغاضبة،  رثاء حبيب،   خيط من النّار،  خاتمة الأيام،  هواجس،  ذكرى تأبين صديق،  نجيّ الله موسى،   النّسر السّابح،  روح فداء.

بل إنّنا نجده يخصّ عنوان ديوانه بعتبة الإهداء المضمّخة ألما وهو يكتب:

الإهداء:

إلى “جراح الغربة”

يَا جِرَاحـــًا تَئِنُّ فَوْقَ الْجِـــــــرَاحِ           كَـمْ تَعَلَّمْـتُ مِنْكِ مَعْنَـــــى الْكِفَــــاحِ

كَـــمْ تَفَرَّدْتُ أنْ أكُـــوْنَ عَصِيـــــًّـا           في كِفَاحِـي ، مِنْ نَزْفِ تِلْكَ الْجِـرَاحِ

يَنْزِفُ الْجُرْحُ حِيْنَ يَصْمُتُ فِكْــرِي         صَمْتَ قَهْرٍ ، عَنِ الْكَــــلامِ الْمُبَــاحِ

مِثْلَ نُوْرِ السِّرَاجِ يَهْتَــــاجُ لَيْــــــلاً          ثُمَّ يَرْتَـــاحُ عِنْدَ وَهْجِ الصَّبَـــــــــاحِ

 2 ـ  متون الدّيوان، متون الألم:

أيّ آلام يكتبها الشّاعر في قصائد ديوانه “جراح الغربة”؟

ينوّع الشّاعر محمّد نعيم بربر مدارات الألم الذي يكتبه في ديوانه “جراح الغربة” فنجد الحنين إلى الوطن والغربة والعشق والشّوق والرّثاء…

* ألم الغربة والحنين إلى الوطن: يلاحظ القارئ أنّ الحنين إلى الوطن مبثوث في أغلب قصائد الدّيوان، رغم أنّ الشّاعر قد خصّه بقصائد، بعضها ينوء بكلكل آلامه منذ العنوان، وبعضها الآخر يرزح تحت ثقله المتن. لذلك سنكتفي ببعض المقاطع الدّالّة من قصيدة “حصاد الغربة”:

حصاد الغربة

وَلَنْ أَنْسَى جِرَاحَكَ فِي فُــؤَادِي

فَكَمْ جُرْحٍ غَدَا لَهَبًا وَجَمْـــــرَا

تَغَلْغَلَ فِي دَمِي حُبـًّا دَفِينًـــــا

لِيُشرِقَ فِي غَدٍ فَجْرًا أَغَــــرَّا

عَزَائِي فِيْكَ يَا وَطَنِي ابْتِهَــــالٌ

تَصَاعَدَ مِنْ فَمِي فَنًّا وَشِعْــــرَا

وهي قصيدة الألم المكثّف، يتمازج فيها ألم عشق الوطن وألم الحنين إليه وألم الاغتراب عنه. تعضدها قصيدة “جراح” لتعمّق كتابة ألم الغربة وجراحها، وفيها ينشد الشّاعر:

                  جِرَاحٌ

يَضِجُّ فِي وَحْدَتِي مِنْ عَزْمِهِ الْقَلَــمُ

وَكَانَ أَدْرَى بِعَزْمِي الْجُرْحُ وَالأ لَـمُ

كَمْ ضَاعَ فِي غُرْبَتِي صَوْتٌ يُعَذِّبُنِـي

إِذَا تَنَادَى الصَّدَى وَاسْتُصْرِخَ الْكَلِمُ

هذا المقطع مرآة لألم الغربة، هذه الغربة التي يفقد فيها الشّاعر الصّوت والصّدى والكلمات، وفيها يشاطره القلم والجرح والألم العزم على كتابة هذا الوجع المرير، فتمسي الغربة قضيّة ذات انفعاليّة وقضيّة لغة معبّرة، وقضيّة قلم ألقيت على عاتقه مسؤوليّة كتابة كلّ هذا الألم.

أمّا في قصيدتي “ابتهالات غريب” و”صحوة” فإنّ ألم الشّاعر يتضاعف وغربة الجسد عن الوطن ترافقها غربة الذّات الشّاعرة بين النّاس، غربة الفكر واغتراب الرّوح.

ابتهالات غريب

“كَانَ عُمْــرِي في غُرْبَتِــــي حَدَّ سَيْــفٍ

فَوْقَ رَأسِي ، يُفْرِيْهِ قَطْعًـــا وَبَتْـــــــرَا

وَحَرَامٌ مَنْ كَـــانَ مِثْلِـــــي جَمُوحًـــــا

أَن يَنَـــالَ الأَذَى جُحُــودًا وَنُكْـــــــــرَا

لا تَزِيدُ الأَيَّــــــــــامُ عُمْـــرَ غَرِيـــــبٍ

حِينَ يَشْكُو ، إِلاَّ الْتِيَاعــــــًا وَقَهْــــــرَا

وَشَكَاتِــــي لا تَنْتَهِــــي عِنْدَ حَــــــــــدٍّ

كُلُّ شَيءٍ فِي غُربَتِــــــــي كَانَ مُـــــرَّا

عِشْتُ فِيْهَــــا فِي غُربَتَينِ وَيَكفِـــــــــي

غُربَـــةً لِي أَن يُصْبِحَ الذَّنبُ عُـــــــــذْرَا

مَا تَعَوَّدْتُ أن أكُـــــــونَ غَرِيبًــــــــــــا

حَسْبِيَ اللهُ ، مَـــا تَخَيَّـرتُ أَمـْــــــــــــرَا

قَـــــــــدَّرَ اللهُ أَن يَطُـــوْلَ اغْتِرَابِـــــــي

رُبَّ يَـــــــومٍ عَرَفْتُـــهُ ، كَانَ دَهْــــــــرَا

            صحوة

لَمْ أَعُدْ أَمْلِكُ شَيْئًــــــا فِي يَــــدِي

كُلُّ مَا أَمْلِكُ قَدْ ضَـــــــاعَ هَبَـــاءَ

تَاهَ فَي غُرْبَةِ نَفْسِـــي ، كَالصَّــدَى

فَتَمَاهَــــى ، وَامَّحَى فِيهَا امِّحَـــاءَ

مِثْلَ نَجـــــــمٍ شَارِدٍ فِي ظُلْمَـــــةٍ

زَادَهُ الْبُعْدُ شُحُوبًـــــا وَانْطِفَــــاءَ

أَفْلَتَتْـــــــــــهُ مِنْ يَدِي أَقْــــــدَارُهُ

فَانْطَوَى يَخْتَزِنُ الْحُزْنَ انْطِـــوَاءَ

هَالَـــهُ مَا حَوْلَـــــــــــــهُ مِنْ زُمَرٍ                                                                                                                 نَفَثُوا الْحِقْدَ سُمُومًـــــــا وَوَبَــــاءَ

حَشَدُوا الدَّهْمَاءَ ، سَيْفـًـــــا قَاطِعًا

يُسْقِطُ الْعِلمَ ، وَيُعْلِــــي الْجُهَــلاءَخَيْطٌ مِنَ النَّارِ

خيط من نار

ضَاقَ الْحَنِيْنُ بَقَلبِي وَاشْتَكَى كَمَدًا

وَأَغْلَقَ الْقَلْبُ حُزْنًا فُسْحَةَ الزَّمَـنِ

كَأَنَّنِي فِي مَتَاهِ الأرْضِ مُنْطَلِـــقٌ

أَطُوْفُ كَالطَّيْرِ مَشْدُودًا  إلى فَنَـنِ

أَوْ أَنَّنِي سَابِحٌ مِنْ غَيرِ أَشْرِعَـــةٍ

مُعَلَّقٌ فَوقَ أَمْـــــواجٍ بِلا سُفُــــنِ

أَوْ أَنَّنِي فِي مَدَارِ الأُفْقِ يُمْسِكُنِــي

خَيْطٌ مِنَ النَّارِ يَحْكِي قِصَّةَ الشَّجَنِ

مَدَدْتُ كَفِّي لأَلْقَى غَيْمَةً عَبَــرَتْ

تَلَهَّفَ الْقَلْبُ لَمَّا لاحَ لِي وَطَنِــي  !!

* آلام الحبّ والتّوق إلى الوصال:

              طيف الأحبّة

طَيْفُ الأَحِبَّةِ ، مَقْطُوعٌ وَمُتَّصِـلٌ

فَإِنْ تَقَطَّعَ حَبْلٌ كَيْفَ أُوْصِلُــــــهُ

حَبْلُ الْمَوَدَّةِ مَوصُولٌ عَلَى حُـرَقٍ

أَخْشَى مِنَ الْحُرَقِ الرَّمْضَاءِ تُشْعِلُهُ

ذَرَفْتُ دَمْعِي لَعَلَّ الدَّمْعَ يُطْفِئُـــــهُ

أَوْ لا ، فَدَمْعُ فُؤَادي ، قَدْ يُبَلِّلُـهُ !!

أَخْشَى عَلَيْهِ  فَطَيْفُ الْحُبِّ مُلْتَهِـبٌ

فَالْوَجْدُ يُحْرِقُهُ ، وَالشَّوْقُ يَقْتُلُــــهُ

إِلَى الأَحِبَّةِ أَشْوَاقِي سَأَنْقُلُهَـــــــــا

عَبْرَ النَّسِيمِ ، وَجِسْمِي مَنْ سَيَنْقُلُـهُ

شَوْقٌ وَاعْتِذَارٌ

قَدْ جِئْتُ طَوْعًا إِلَى عَيْنَيْكِ أَعْتَــذِرُ

تَقَبَّلِي الْعُذْرَ مِمّنْ سَاقَــــهُ الْقَــــدَرُ

إنْ كُنْتِ تَهْوَيْنَ مَنْ كُنْتِ لَهُ قَــدَرًا

فَحَقُّ حُبِّي ، إِلَيْكِ الْيَوْمَ يَعْتَــــــذِرُ

مَا كَانَ طَوْعًا غِيَابِي يَا مُعَذِّبَتِـــي

فَكُلُّ هَجْرِي عَذَابٌ فِيْكِ يُخْتَصَــرُ

وَالرُّوحُ حَتَّى وَإِنْ كَانَتْ مُسَلِّمَـــةً

إِلَى القَضَا  فَهْيَ فِي عَيْنَيْكِ تَنْتَحِــرُ

*ألم الكتابة:

                     جراح

أَنَا الْجَرِيْحُ عَلَى صَمْتٍ تَكِلُّ بِـــــــهِ

كُلُّ الْجِرَاحَاتِ ، فَانْطِقْ أَيُّهَا القَلَــــمُ

عَهْدَي بِكَ الْيَوْمَ بَتَّـــارًا ، فَخُذْ بِيَدِي

مِنْ قُمْقُمِ الذُّلّ وَاضْرِبْ أَيُّهَا الصَّرِمُ

أَخْرِجْ مِنَ الْقُمْقُمِ الْمَذْمُوْمِ ، سَاحِـرَهُ

هَوَى الْجِدَارُ ، وَبَانَ السَّاحِرُ الْقَـزَمُ

أَحْلامٌ وَ أَوْهَامٌ

أُسَافِرُ خَلْفَ أَحْلامِـــــــي

عَلَى و َرَقي وَأَقْلامِــــــي

وَأُبْحِرُ فِي مِدَادِ الْحِبْــــــ

ر ، فِي شَرْيَانِهِ الدَّامِـــــي

أُفَتِّشُ  عَنْ  مَرَافِئِــــــــهِ

أُسَابِقُ مَوْجَهُ الطَّامِـــــــي

** ألم الوعي بتردّي فنّ الكتابة الشّعريّة:

                      الشَّمْسُ الْغَاضِبَةُ

يستهلّها بقوله:

     لِلشَّمْسِ أَروِي قِصَّتِــــــي ، أَحكِي لَهَا

       ظُلْمَ النُّجُـــــــومِ ، وَجَفْوَةَ الأَقْمَـــــــارِ

      أَشكُو لَهَــــــا حُرَقَ الْجَوَى وَضِرَامَــهُ

      وَصُدُودَ أَهْلِ الْعِشــــــــــقِ وَالسُّمَّـــارِ

(……………………………)

يسند إلى الشّمس خطاب عتاب مفتتحه:

       فَتَقُولُ : أَنْتُمْ  مَعْشَــــــــــرَ الشُعَّـــارِ

       كَمْ شَوَّهَتْ أَشعَارُكُــــــــــم أَخْبَــاري

(…………………………….)

أَلْيَومَ تَحكُـــــمُ بَيْنَنَـــــــا أَخبَارُكُـــــــم

تِلكُـــمْ إِدَانَتُكُــــم بِوَصْمَـــةِ عَـــــــــارِ

تَشكُــــونَ لِي مِنْ جَفْـــــــوَةِ الأَقمَـــارِ

سُحْقًـــــــــا لَكُم فِي جَنَّــــةٍ أَو نَــــــارِ

مَا هَذِهِ الأَقْمَـــــــــارُ إِلاَّ وَمضَــــــــةٌ

مِنْ ظِلِّ أَطيَافِــــــــي وَلَونِ نُضَــارِي

سَأُبَدِّلُ الأَفْــــــــــلاكَ فَوقَ رُؤوسِكُــمْ

أَلْيَومَ مَوعِدُكُــــــمْ لأَخْـــــذِ الثَّــــــــارِ

سَأَزَيدُ مِن لَهَبِــــــــــي عَلَى أَقْمَارِكُــم

وَأَصُبُّ مِنْ حُمَمِـــي وَهَوْلِ دَمَـــــاري

وَأرُشُّ مِنْ شُهُبِـــــي وَعُنْفِ صَوَاعِقِي

غَسَقـًــــا يُحِيْطُ بِكُلِّ نَجْــــــــمٍ سَــــــارِ

سَأُذِيْقُكُـــمْ سُــــــوْءَ الْعَذَابِ بِظُلْمِكُــــم

وَجُحُودِكُـــــــم يَا مَعْشَــــرَ الأشْــــرَارِ

سَأُعِيْدُكُــــم لِجُحُورِكُــــم  وَظَلامِكُــــم                                                                                                                                                                             إنِّـــي سَأُعْلِــــنُ ثَــــــــــوْرَةَ  الثـُّـــوَّارِ

إِنْ كَانَ هَذَا الظُلْمُ بَعْضَ قَرَارِكُــــــــــم

فَأَنَـــــا الْجَحِيمُ لَكُـــم ، وَهَذَا قَرَارِي!!.

3 ـ كتابة الألم، جماليّة الخطاب:

ليكتب الشّاعر آلامه المتعدّدة في قصائده ارتأى أن ينوّع الآليّات الفنّيّة التي تشكّل جماليّة الخطاب شعريّا وتوجّه القارئ نحو خرائط تلقّ تهديه إلى العوالم الدّلاليّة الممكنة الخبيئة في العمق النّصّيّ.

ولعلّ أبرز آليّاته الجماليّة في هذا الدّيوان تنحصر في التّكرار أُسّا للبنية الإيقاعيّة، والتّكثيف المعجميّ ووالنّزعة الحكميّة والقصائد الواصفة.

3 ـ1 ـ كثافة التّكرار، إيقاع الألم:

تتعدّد التّعريفات النّقديّة للتّكرار من حيث وظيفته النّصّيّة وأهمّيّته في تشكيل الدّلالة، فيذهب جوليان غریماس Julien Greimas، في تبرير حضوره في النّصّ، إلى ما يضطلع به من وظائف مختلفة في الخطاب كتيسير تلقّيه،وتكثيف الدّلالات الإيحائيّة الكامنة فيه، وهما وظيفتان مركزيّتان في تشكيل مسار ارتحال الخطاب الأدبيّ من المبدع إلى المتلقّي.

ولعلّ وعي الشّعراء بأهمّيّة التّكرار ومركزيّته صار الدّافع الأبرز لاعتماده أسّا من أسس البنية الإيقاعيّة في القصيدة الحديثة. وديوان “جراح الغربة” يؤكّد هذا الوعي بشكل واضح. فالقارئ يلفي الشّاعر محمّد بربر يعتمد أشكالا متعدّدة منه في كلّ القصائد، بل إنّه يتجاوز توظيفه أسلوبا جماليّا شعريّا إلى جعله جوهر كلّ قصيدة تكرارا حرفيّا صوتيّا أو تكرارا لفظيّا، أو تكرارا تركيبيّا، أو كلّها مجتمعة في القصيدة الواحدة.

* التّكرار اللّفظي: لا تخلو كلّ قصائد الدّيوان من اعتماد التّكرار اللّفظيّ تكرارا تتعدّد مداراته المنضوية كلّها في  مدار الالم، من الغربة والبكاء والحنين، وينتسج لتلقّي الوجع مداراته الاستقرائيّة المنفتحة على التّعدّد والاختلاف. ونظرا لضيق مجال هذا البحث فإنّنا سنكتفي ببعض أمثلة دالّة.

ففي قصيدة الْغُرْبَةُ الْقَاتِلَةُ يبرز  تكرار لفظتيْ “الغربة “و”الدّمع”، فيشكّل جرسا صوتيّا يأسر القارئ والسّامع في بوتقة الألم الذي تفيض به هاتان العبارتان، يقول الشّاعر:

لَمْ تَزِدْنِي غُرْبَتِــــي إِلاَّ أَســــًــــــى

عِشْتُ فِيْهَا وَحْدَتِي فِي غُرْبَتَـيــــــنْ

غُرْبَــــــةٌ عَنْ وَطَنِـــــي أَحْفَظُهَــــا

لَمْ تَزَلْ ظَــاهِرَةً فِي الْمُقْلَتَيـــــــــنْ

وَانْسِلابِــــي عَنْ حَيَاتِي غُرْبَــــــةٌ

تَحْفَظُ الْمَاضِي ، جَرَتْ فِي دَمْعَتَينْ

دَمْعَــــةٌ أَذْرِفُهَـــــــــا عَنْ نَدَمِـــــي

حِيْنَمَــــــــا أُشْعِلُ نَارَ الْوَجْنَتَيـــــــنْ

تَلْتَقِيْهَــــا دَمْعَــــــــةٌ فَوْقَ فَمِــــــي

تُطْفِئُ الأُوْلَـــــى بِخَمْرِ الشَّفَتَيـــــنْ

مِثْلَ بَاقِــــي شَمْعَــــةٍ نُطْفِئُهَـــــــــا

حِيْنَمَــــا تَهْتَاجُ نَجْوَى عَاشِقَيـــــــنْ

كُلُّ جُــــــــزْءٍ بَـــاحِثٌ عَنْ مِثْلِــــهِ

يَتَمَاهَـــــــى ظِلُّـــــهُ فِي شَمْعَتَيــــنْ

يَا لَهَـــــا مِنْ غُرْبَــــــــــةٍ قَاتِلَــــــةٍ

يُقْتَلُ الشَّاعِرُ فِيْهَـــــا مَرَّتَيــــــنْ !!

أمّا في قصيدة جراح الشّوق فيبرز تكرار كلمة جراح بروزا لافتا موجعا. يقول الشّاعر:

جِرَاحُ الشَّوْقِ

يَا جِرَاحَ الشَّوْقِ عَنِّي لَمْلِمِــــي

حُرَقَ الْوَجْدِ وَحُمَّى الأَلَـــــــــمِ

……………………..

يَا لِجُرْحٍ غَائِرٍ فِي جَسَــــــدِي

مِنْ مَتَاهَاتِ الْفَنَــــا وَالْعَـــــدَمِ

كَيْفَ يُشْفَى ، وَجِرَاحَاتُ الْهَوَى

أَذْبَلَتْ عُمْرِي ، وَأَدْمَتْ لِمَمِــي

كَيْفَ يُبْرَا ، وَتَبَارِيْحُ الْجَــــوَى

أَلْهَبَـــتْ فِيهِ هُمُومَ الْهَــــــــرَمِ

………………………

كُلُّ أَحْلامِي هَوَتْ أَطْياَفُهَــــــــا

كَالْمَرَايَــــا فَوْقَ قَـاعٍ مُظْلِـــــمِ

إِنْ بَدَا مِنْهَـــا وَمِيْضٌ خَافِــــتٌ

أَطْفَأَتْ رُوْحِـــي جِرَاحُ النَّـــدَمِ

وفي قصيدة “أحلام وأوهام” تتكرّر كلمة “طيف” المضمّخة في ذاكرتنا برهافة الانفعالات لارتباط دلالتها بالوصال الوهميّ الذي يؤجّج لظى الفقد والحنين. وهو في هذه القصيدة: طيف من الحزن، طيفا جميلا، طيفا كفوح أريج زهر، طيف الأحبة، طيف الحب، طيف شرود.

 ويمثّل التّكرار اللّفظيّ حقلا خصيبا للدّلالة في القصائد، باعتبار أنّه ” في المعطى اللغوي لا یمنح النغم فقط بل یمنح “امتدادا” و”تنامیا” للقصیدة في شكل ملحمي انفعالي متصاعد نتیجة تكرار العنصر الواحد (…) فتمنح القصیدة قوة و صلابة، نتیجة التردید للفظة المتكررة”(1)

إنّها ملحمة الألم والوجع تمنح القصيدة صلابتها وتناميها، وتهب القارئ موائد انفعالات حارقة مريرة.

*التكرار الصّوتي:

يرتكز الإيقاع في ديوان “جراح الغربة” على نزوع إلى تكرار صوتيّ مكثّف في كلّ قصيدة. ولعلّنا نذكر أمثلة منها ارتأى فيها الشّاعر أن يوظّف الاشتقاق الصّرفيّ للجذر الواحد آايّة من آليّات هذا التّكرار، مثلا في قصيدة “شوق واعتذار”: أعتذر، العذر، يعتذر،سفر، سافرتُ، الشوق، شوقي، وفي  قصيدة “غربة”:  نجد عذري، العذر، ثقيل، أثقل، رجعة، الرجع، مُرجعا.

أمّا قصيدة “شريط الذكريات” فأسّ الإيقاع فيها مختلف، هو تكرار الرّوي في العروض وفي الضّرب من البيت الأوّل: النّون السّاكنة المسبوقة بإشباع الكسرة، و النون المشبعة فتحتها، على امتداد القصيد:               

                                         شَرِيْطُ الذِّكْرَيَاتِ

أُنَشِّطُ ذَاكِرَتِي بِالْحَنِيـــــــــــنْ

إِلَى ضَفَّةِ النَّهْرِ وَالْمُنْحَنَــــــى

وَأَعْبُرُ فِيْهَا لِمَاضِي السِّنيِــــنْ

أُفَتِّشُ عَنْ ضائِعاتِ الْمُنَـــــى

أَطُوفُ على رَوْضَةِ الْيَاسَمِينْ

وَأَقْطِفُ مِنْ وَجْنَتَيْهَا السَّـــــنَا

وَأَغْرَقُ فِي أَعْيُنِ الْعَاشِقِيــــنْ

أُلَمْلِمُ عَنْهَا الشَّقَا وَالضَّنَــــــى

وَأَرْشُفُ مِنْ أَكْؤُسِ الشَّارِبِينْ

رَحِيْقًا كَقَطْرِ النَّدَى مُجْتَنَـــى

وَأَكْشِفُ عَنْ أَوْجُهِ الْحَائِرينْ

جُرُوْحًا بِهَا أَوْرَقَتْ سَوْسَــنَا

وَأُشْعِلُ مِنْ أَدْمُعِ التَّائِهِيــــنْ

سِرَاجًا خَبَا نُورُهُ وَانْحَنَــــــى

وَأَخْطِفُ مِنْ غَفْوَةِ النَّائِمِيـــنْ

نُعَاسَ السِّنِيْنَ ، وَنَوْمَ الْهَنَــــا

أُجَدِّدُ فِيْهَا رُؤَى الْحَالِمِيـــــنْ

وَأَنْسِجُ جَفْنِي لَهَا مَسْكَنَــــــــا

أَعُوْدُ إِلَى ذِكْرَيَاتِي حَزِيــــنْ

أَقُوْلُ : أَتَيْتُ ، أَنَا هَا هُنَــــا!!

هذا الضّرب من الالتزام يُعتبر في الشّعر من باب لزوم ما لا يلزم، لكنّه في هذه القصيدة يبدو للقارئ إيقاعا مركزيّا، حمّالَ صدى الأنين الذي به يضيق فؤاد الشّاعر وهو يكابد كلاكل الألم، مضفيا على صورة الألم امتداد عمق واتّساع مدى تأويليّ، تستمدّه من كون “تكرار الحرف و تردیده في الكلمة الواحدة یمنحھا نغمة و جرسا ینعكسان على جمال الصورة”(2) وجماليّة تلقّيها.

*التكرار التركيبي:

 _تكرارالجملة الفعليّة، (تماثل الإيقاع واختلاف اللفظ)

_ ق خيبة الأماني: تكرار الجملة التّقريريّة الفعليّة والجملة التّقريريّة الاسميّة المؤكّدة، والجملة الاستفهاميّة:

نَأْسَــــى عَلَيْكَ وَكُنْتَ فِيْنَا مُلْهَمــًا

نَسْرًا جَسُورًا ، فَــــاقَ كُلَّ حُــدُوْدِ

نَخْشَى عَلَيْكَ وَكُنْتَ فِيْنَا جَامِحـــًا

كَجُمُوحِ أَحْصِنَةِ الْفَلا وَالْبِيْـــــــــدِ

نَصْبُو إِلَيْكَ وَكُنْتَ فِيْنَــــا سَيِّــــــدًا

وَنَخَافُ أَنْ تُمْسِي أَسِيْرَ قُيُــــــــودِ

مَاذَا دَهَاكَ ، فَهَلْ غَوَى بَكَ آسِــرٌ

أَمْ خَــارَ عَزْمُكَ فِي قِرَاعِ الصِّيْــدِ

أَمْ مَاتَ قَلْبُكَ فِي النَّوَى مُتَقَطِّعــــــًا

مِنْ  كَثْرَةِ  التَّرْدِيـدِ  وَالتَّنْهِيْــــــــدِ

قَدْ طَالَ بُعْدُكَ يَا فَتىً ، إِنَّا هُنَـــــا

نَأْسَى عَليْكَ مِنَ الأَسَى الْمَنْكُـــودِ

إِرْجِعْ إِلَيْنَا ، عُدْ إِلَى حيٍّ لَنَـــــــا

مَا زَالَ مُنْتَظِرًا بِفَرْحَةِ عِيْـــــــــدِ

إِنَّا لِجُرْحِـــكَ بَلْسَـــمٌ ، وَشِـــفَاؤُهُ

أَمَلٌ وَأَشْــوَاقٌ وَعِطْــــــرُ وُرُوْدِ

إِنَّا لِلَيْلِكَ أَنْــــجُمٌ وَمَدَارُهَــــــــــا

شِعْرٌ وَسُمَّــارٌ وَنَغْمَةُ عُـــــــــوْدِ

إِنَّا لِرُوْحِكَ قُبْلَةٌ وَرُضَابُهَـــــــــا

قَطْرُ النَّدَى فِي آخِرِالْعُنْقُـــــــــوْدِ

إِنَّا إِلَيْكَ مِنَ الْحَيَاةِ رُوَاؤُهَـــــــــا

وَمِنَ الفُؤادِ دَمٌ وَحَبْلُ وَرِيْـــــــــدِ

مَا الْعُمْرُ فِي فَلَكِ الْوُجُوْدِ إِذَا هَـوَى

إِلاَّ كَنَجْـــمٍ فِي السَّمَاءِ بَعِيْــــــــــدِ

نَهْفُو لَهُ ، إذْ يَسْتَحِيلُ لِقَــــــــــاؤُهُ

وَنُحِبُّهُ  فِي وَجْـــهِ كُلِّ وَلِيْـــــــــــدِ

مَا عَادَ يُدْرِكُنَا الْهَوَى إِلاَّ أَســـــًى

مَا بَيْنَ مَاضٍ فِي اللِّقَا ، وَجَدِيْــــدِ

مَا عَــــادَ يَجْمَعُنَا الثّرى إِلاَّ رُؤىً

فِي عَيْنِ بَاكِيَةٍ ، وَمَوْتِ شَهِيْــــــدِ

عَجِّلْ إِلَيْنَا ، إِنَّ قُرْبَكَ مَوْعِـــــــــدٌ

يَا حَبَّذَا لِلْمَوْعِـــدِ الْمَنْشُـــــــــــوْدِ

فَعَسَى يُعِيْدُ إِلَى اللِّقَاءِ جَمَالَــــــــهُ

فِي غَمْرَةِ الأَحْزَانِ وَالتَّسْهِيْــــــــدِ

وَعَسَى يُجَدِّدُ لِلْعُهُوْدِ بَرِيْقَهَـــــــــا

كَمْ مِنْ وُعُوْدٍ أُطْلِقَتْ وَعُهُـــــــــوْدِ

مَا كَانَ أَصْعَبَ مِنْ سُؤَالٍ قَاتِــــــلٍ

وَجَوَابُهُ ، بِيَدِ الْقَضَــا الْمَوْعُوْدِ !!

*تكرار صيغة التّعجّب: 

                                                        جراح

                                          كَمْ ضَاعَ فِي غُرْبَتِي صَوْتٌ يُعَذِّبُنِـي

                                          إِذَا تَنَادَى الصَّدَى وَاسْتُصْرِخَ الْكَلِمُ

                                          كَمْ ضَلَّ بِي هَاتِفٌ وَاسْتَسْلَمَتْ بِيَدِي

                                         صَوَارِمٌ وَنَزَا جُرْحٌ بِهَـــــــــا وَدَمُ

                                         كَمْ جُنَّ عَقْلِي وَقَدْ سَالَتْ هَوَاجِسُـهُ

                                         سَيْلَ القَوَافِي عَلَى شِعْرِي وَضَجَّ فَمُ

                                         كَمْ قَامَ بِي مَارِدٌ سَارَتْ قَوَائِمُــــــهُ

                                         سَيْرَ الرِّيَاحِ وَمَا زَلَّتْ بِهِ قَـــــــــدَمُ

                                         وكَمْ تَنَادَى عُقَابُ الْجَوِّ يَتْبَعُنِـــــــي

                                         فَوْقَ السَّحَابِ عَلَى جُرْحٍ بِــهِ وَرَمُ

                                         وَكَمْ تَهَادَى عَلَى قَوْسٍ يُزَاحِمُنِـــــي

                                         فَوقَ الثُّرَيَّا وَكَمْ سَادَتْ لَهُ قِمَـــــــمُ

*تكرار الاستفهام:

            اتغامرين معي

أتُسَافِرِيْنَ مَعِي ؟! وَوُجْهَةُ رِحْلَتِي

حُلُمٌ يُرَاوِدُنِي وَيُشْغِلُ بَالِـــــــــــي

هَلْ أَنْتِ مِنْ بَينِ النِّسَاءِ حَبِيْبَـــــــةٌ

فَتُجِيْبُنِي ، أَمْ هَلْ رَثَيْتِ لِحَالِـــي ؟!

أَخْشَى الْجَوَابَ ، يُثِيْرُنِي ، فَيُمِيتُنِــي

وَأَخَافُ مِنْ غَضَبِي وَظُلْمِ سُؤالِــي

أَتُسَافِرِيْنَ مَعِي ؟! وَزَوْرَقُ رِحْلَتِــي

مِنْ لَوْنِ ذَاكِرَتِي ، وصُنْعِ خَيَالِـــي

هَلْ تَذْكُرِيْنَ الْبَحْرَ فِي شُطْآنِـــــــهِ

وَتَسَاقُطَ الأَمْوَاجِ فَوْقَ رِمَـــــالِي؟!

هَلْ تَذْكُرِيْنَ سَوَاحِلًا مَزْرُوْعَـــــةً

خَلْفَ الْمَدَى وَمَلاعِبَ الأَطْفَـال؟!

هَلْ تَذْكُرِيْنَ نَوَارِسًا بِحْرِيَّــــــــــةً

مَسْحُورَةً مَشْدُوْدَةً لِلْعَالِــــــــــي؟!

يَجْتَاحُهَا شَوْقُ الْغِوَى إِذْ تَنْحَنِـــي

فَيَلُفُّهَــــــا وَيَضُمُّهَـــــا بِـــــــدَلالِ

أَتُسَافِرِيْنَ مَعِي ؟! وَوُجْهَةُ رِحْلَتِـي

شِعْرٌ ، وَأَحْصِنَةٌ وَوَجْهُ هِــــــلالِ

هِيَ رِحْلَةٌ نَحْوَ الْحَنِيْنِ بَعِيْـــــــــدَةٌ

أَلْقَيْتُ فَوْقَ مَسَارِهَا أَحْمَالِـــــــــــي

*ق الطود الشّامخ

(…………………)

تَقُوْلُ لَهُ مَهْلاً ، أَمَا زِلتَ لِلصِّبَـــــــا

أَلُوْفـًا وَتُغْرِيْكَ الْحِسَانُ النَّوَاعِـــــــمُ

أمَا زِلتَ لِلنَّهْـــــــرِ الْكَبِيرِ تَصُـــدُّهُ

فَيُغْـــرِيكَ عَنْ عَزْمِ اللِّقَا ، وَتُقَــاوِمُ

أمَا زِلْتَ لِلسَّهْلِ الْفَسِيْحِ مُغَــــــازِلاً

تَشُقُّ عَلَيْـــهِ جَفْنَـــهُ ، وَهْوَ نَائِــــمُ

تَرُشُّ عَلَيْهِ مِنْ نَدَى الصُّبْحِ قَطْـرَهُ

فَيَصْحُو ، عَلَى دَمْعٍ جَلَتْهُ النَّسَائِـمُ

يَقُولُ عَلَى غُنْجٍ : أَمَا كُنْتَ تَسْتَـحِي

    وَسَفْحُكَ طُولَ اللَّيْلِ بِالْفِعْلِ آثِـــــــمُ                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                             فَهَلْ أَنْتَ بَعْدَ الْيَوْمِ طَـــوْدٌ مُقَــاوِمٌ

تَدُكُّ حُصُوْنَ الأَرْضِ فِيْكَ الْعَزَائِـمُ

أَمَ انَّكَ مَهْزُومٌ بِوَصْلِكَ خَـــائِــــبٌ

لأَنَّكَ فِي الْحَالَيْنِ ، بَاغٍ وَظَالِــــمُ!!

أَرَاكَ عَصِيًّا أَيُّهَا الطَّوْدُ ، فَاتَّعِــظْ

فَعُذْرُكَ مَقْبُولٌ وَمَا أَنْتَ لائِـــــــــمُ

تَمَنَّعْتَ دَهْرًا ، إِذْ أَتَيْتَ تَضُمُّنِــي

فَهَلْ أَنْتَ عَنْ حَقٍّ عَصِيٌّ وَ نَادِمُ ؟!

فتنشأ في تكرار الاستفهام ترديدٌ نغميّ جليّ يفتح القارئ على عوالم دلاليّة رحبة جوهرها حركة حثيثة للحيرة في فكر الشّاعر المتلظّي بألم الحنين والتّوق إلى وصال.

* تكرار متنوّع، النّداء والأمر والاشتقاق الصّرفيّ على وزني ” متفعّل” و”مفاعل”:

              رهين مشاعري

يَا شَاعِرِي .. ألْيَومَ يَقْتُلُنِــــي الْجـَــوَى

مُتَبَرِّمًا ، مُتَنَدِّمًا ، مُتَحَدِّيًـــا لِلْحَاضِــرِ

أُنْظُـــــرْ إِلَى هَذَا الْوُجُودِ مُحَدِّقـــــــًا

وَاعْبُــرْ عَلَى جَسَدِ الزَّمَانِ الْغَابِــــــرِ

فَعُيُوْنُ أَهْلِ الأَرْضِ صَارِخَةُ الْغِـــوَى

فَاحْذَرْ طَرِيْقَ مُعَانِــــــــدٍ وَمُكَابِـــــــرِ

أطْلِــــــــقْ فُؤَادَكَ مِنْ قُيُوْدِكَ ثَائِــــــرًا

وَاغْضَبْ وَلا تَخْشَ شَمَاتَـــةَ آسِــــــرِ

بَدِّلْ حَيَاتَكَ حَيْثُ شِئْتَ مُجَاهِـــــــــرًا

وَاكْسِرْ حُرُوْفَ الْوَهْمِ فَوْقَ مَنَابِـــــرِي

وَاصْدَحْ ، فَصَوْتُكَ مُسْتَبَــــاحٌ لِلصَّدَى

وَافْرَحْ ، فَوَجْهُكَ بَهْجَــةٌ لِلنَّاظِـــــــــرِ

يَا شَاعِرِي .. أَلْيَوْمَ جِئْتُكَ طَائِعــــــــًا

مُتَخيِّرًا مَا بَيْنَ مُنْهَزِمٍ وَقُوّةِ قَــــــــادِرِ

يَا شَاعِرِي ..  قُمْ لِلْحَيَاةِ مُغَامِـــــــــرًا

أَخْشَى عَلَى شِعْرِي جُنُوْنَ خَواطِــرِي

_أمّا في قصيدة “هاتف” فيبرز تكرار النداء( يا نور الفجر، يا ضحكي، يا لون تمر، يا فرحة، يا غيمة)، وتكرارصيغة التعجب، وتكرار التاكيد والأمر.

* تكرار الأسلوب التّقريريّ إثباتا ونفيا في تعاقب تقاطعيّ(إثبات، نفي فإثبات ونفي):

             جِهَادُ الْمُحَارِبِ

يَظُنُّ جُمُوْعُ النَّاسِ فِي حُسْنِ مَظْهَرِي

بِأَنِّي خَلِيُّ الْبَـــــالِ ، سَهْلُ الْمَرَاكِــبِ

أَعِيْشُ كَمَا أَهْــــوَى كَطِفْلٍ مُدَلَّــــــــلٍ                                                                                          جَمِيْلِ الْمُحَيَّــــا ، مُسْتَجَابِ الْمَطالِــبِ

وَمَا عَلِمُوا أنِّـــــي امْـــرُؤٌ ذُو شَكِيمةٍ

أجَاهِدُ في نَفْسِي جِهَـــــــادَ الْمُحَاربِ

أسيرُ على حَدِّ الْمَخَاطِـــــــرِ والرَّدَى

كَمِيًّا جَمُوحــًــــــا  فَوْقَ هَامِ الرَّكائبِ

وَأَحْيَا  كمَا يَهْوَى الْقَضَا  دُوْنَ رَغْبَتِي

ومَا قَدَري إلاَّ امْتِحَانُ الرَّغَــــــــائِبِ

*  تكرار الجملة إسميّة بسيطة مبتدؤها ضمير المتكلّم “أنا”، تكرارا تبرز من خلاله الذّات المتلفّظة في القصيدة محور الألم، جمّاعة الوجع. ففي قصيدة” سراب” مثلا، نلفيه ينشد:

سراب

أنَا الشَّرِيْـــدُ بِلا حُبٍّ ، بِلا أَمَــــــــلٍ

على صَحَارَى لَيَالِي الْبُؤْسِ والضَّجَرِ

أنَا الْجَمُوحُ الَّذِي فَــــــرَّتْ رَكَائِبُــــهُ

خَلْفَ السَّرَابِ تُلاقِي سَـــاعَةَ الْخَطَرِ

أنَا الْجَرِيحُ وسَهْمُ الْمَوتِ يَرْصُدُنِــي

أنَا الْقَتِيْلُ  على  بَوَّابَــــــــةِ  الْقَدَرِ…

*تكرار مزدوج، النّهي والتّقرير:

 كَفَى جِرَاحًا عَلَى كـَفٍّ تَشُلُّ يَـــــدِي

كَفَى مِــدَادًا لِجُرْحٍ لَيْسَ يَلْتَئِـــــــــــمُ

كَفَى جِرَاحًا عَلَى أَرْضِ الصُّمُوْدِ وَمَا

نَزْفُ الْجِرَاحَاتِ إلاَّ الْحِقْدُ والنِّقَــــــمُ

كَفَى جِرَاحًا عَلَى شَعْبٍ يُصَابُ بِهَــا

فِي عِزَّةِ الْمَجْدِ ، مَنْ عَزَّتْ بِهِ الْقِيَـمُ

كَفَى جِرَاحًا عَلَى بُؤسٍ يُطَــــــارِدُهُ

عِنْدَ الْبَلِيَّاتِ ، سَفَّــــــاحٌ وَمُنْتَقِـــــــمُ

أَنَا الْجَرِيْحُ عَلَى أَرْضٍ يَلُوذُ بِهَــــــا

نَحْوَ السَّمَــــاواتِ مَفْجُوْعٌ وَمُنْهَـزِمُ

أَنَا الْجَرِيْحُ عَلَى جَمْرٍ يُلاحِقُنِــــــي

خَوْفَ النَّجَاةِ بِهِ مِنْ عَزْمِــــهِ النَّــدَمُ

جَرَعْتُ فِيْهِ كُؤُوْسَ السُّمِّ  لاهِبَـــــةً

وَهَلْ يُدَاوِي جِرَاحَ السُّمِّ بِي ضَـرَمُ؟!

أَنَا الْجَرِيْحُ عَلَى شَعْبٍ يَنُوءُ بِـــــــهِ

حَمْلُ الأَمَانات مِمَّا تَحْمِلُ الْهِمَـــــــمُ

أَنَا الْجَرِيْحُ عَلَى صَمْتٍ تَكِلُّ بِـــــــهِ

كُلُّ الْجِرَاحَاتِ ، فَانْطِقْ أَيُّهَا القَلَــــمُ

عَهْدَي بِكَ الْيَوْمَ بَتَّـــارًا ، فَخُذْ بِيَدِي

مِنْ قُمْقُمِ الذُّلّ وَاضْرِبْ أَيُّهَا الصَّرِمُ

أَخْرِجْ مِنَ الْقُمْقُمِ الْمَذْمُوْمِ ، سَاحِـرَهُ

هَوَى الْجِدَارُ ، وَبَانَ السَّاحِرُ الْقَـزَمُ

فَقُوَّةُ الْحَقِّ شَعبٌ صِنْوُ صُوْرَتِـــــهِ

وَقُوَّةُ الْعَزْمِ حَقٌّ خَصْمُهُ صَنَــــــــمُ

إِلَيْكَ شَعْبِي وَكُلُّ الشَّعْبِ لِي وَطَـنٌ

كَفَى جِرَاحًا إِلَيْكَ الْيَوْمَ أَحْتَكِــــــــمُ

فَعِزَّةُ الأَرْضِ والأَوْطَانِ عَاصِيَـــةٌ

عَلَى المُرَائِيْنَ ، فَاخْفِقْ أَيُّهَا الْعَلَـــمُ

* تكرار مزدوج، التّعجّب والاستفهام:

                 صدى الصّمت

وَكَمْ تَرَقْرَقَ دَمْعِي حِيْنَ أُنْشِــــــدُهُ

لَوْ جَاءَنِي الشِّعْرُ دَمْعًا لا أُكَذِّبُـــــهُ

فَكَمْ دُمُوعٍ بِقَلْبِـي كُنْتُ أَنْظِمُهَــــــا

وَكَمْ أَنِيْنٍ بِشِعْرِي كُنْتُ أَسْكُبُــــــهُ

وَكَمْ جِرَاحٍ بِقَلْبِي كُنْتُ أَجْرَعُهَــــا

كَالسُّمِّ يَقْتُلُنِي كَرْهًا فَأَشْرَبُــــــــــهُ

وَكَمْ هُمُومٍ بِفِكرِي كُنْتُ أَحْمِلُهَـــــا

كَمْ كُنْتُ أَغْرَقُ فِي هَمٍّ أُجَرِّبُـــــــهُ

لا عَنْ جَهَالــــةِ قَصْدٍ أَوْ مُعَانَـــدَةٍ

فَالْقَلبُ يَعْشَقُـــــهُ دَومًا مُعَذِّبُـــهُ !!

يَقُولُ شِعْرِي مِرَارًا حِيْنَ أَنْظِمُـهُ :

أَمَا تَخَافُ لِقَــــــــاءً كُنْتَ تَطْلُبُـــهُ

أَمَا تَحِـــنُّ إلَى حِـــــسٍّ سَتَفْقِـــــدُهُ

لَمَّا عَلَى الْوَرَقِ الظَّمْــــآنِ تَسْكُبُـهُ

أَمَا يَرُوْعُـــــكَ شِعْرٌ كُنْتَ تَرْقُبُـــهُ

أَمَا يُخِيْفُـــــكَ صَبٌّ كُنْتَ تُغْضِبُــهُ

فَقُلْتُ والرُّوْحُ مِنِّــي تَنْتَشِي فَرَحـًا:

مَا كَانَ أَجْمَلَ مِنْ جُرْحٍ تُطَبِّبُــهُ !!

تتواشج البنى النحوية والصيغ الصرفية في تشكّلاتها الإيقاعيّة التي يخلقها التّكرار، فيؤسّس الشّاعر وجودا معماريّا مخصوصا للّغة يتجاوز، ببنيته الإيقاعيّة، حدودها التّعبيريّة الإخباريّة إلى فضاءات جماليّة الخطاب الرّحبة المنفتحة على التّعدّد وجوهَ خلق، ومساراتِ تلقّ. وهو من خلال هذا الوجود المعماريّ المخصوص، هذا الضّرب من الموسيقى النّغميّة المرتبطة بحالة شعوريّة تختزل الألم انفعالا ذاتيّا تكابده الذّات الشّاعرة فتسري عدواه في نفس المتلقّي فيألَم إذ الشّاعر يألَم ويؤلم، يؤكّد أنّ التّكرار “إلحاح على جهة هامة من العبارة يُعنى بها الشّاعر أكثر من عنايته بسواها… وهو بهذا المعنى ذو دلالة نفسيّة قيّمة تفيد النّاقد الأدبيّ الذي يدرس الأثر ويحلّل نفسيّة كاتبه.”(3).

3 ـ 2 ـ الخطاب الجداليّ:

تتعدّد الحوارات الجداليّة في ديوان “جراح الرّوح”، تتنوّع الأطراف المجادلةُ الذّات الشّاعرة فيها، والوشيجة الجامعة بين كلّ هذه الجدالات ألم اغتراب الشّاعر بين النّاس.

غُرْبَةٌ

يَقُوْلُونَ لِي : يَكْفِي بُعَادًا وَغُرْبَـــــــــةً

وَيَكْفِي وَرَاءَ الْمَالِ سَعْيًا وَمَطْمَعَــــــــا

فَلَيْسَتْ حَيَاةُ الْمَرْءِ إلاَّ هُنَيْهَـــــــــــــــةً

يُسَابِقُ فِيْهَا الْمَوْتُ دُنْيَاهُ مُسْرِعَــــــــــا

تَدُوْرُ بِهَا الأَعْمَارُ مِنْ غَيْرِ رَجْعَــــــــةٍ

وَيَبْقَى الصَّدَى كَالرَّجْعِ لَوْ كانَ مُرْجَعَـا

وَلَيْسَتْ تُضِيْرُ الْمَرْءَ فِي الْعُمْرِ غُرْبَـــةٌ

فَلِلْمَرءِ يَبْقَى الذِّكْرُ فِي الأَرْضِ مَا سَعَـى

وَلَكِنَّ أَوْقَاتـــــــــًا مِنَ الْحُبِّ وَالْهَنَـــــــا

لأَجْمَلُ مِنْ كُلِّ الَّذِي فَاتَ أَجْمَعَـــــــــــا

يَهِيْمُ فُؤادُ الْمَرْءِ فِيْهَـــا وَيَنْتَشِــــــــــــي

وَيُفْضِي إِلَى الْخِلانِ مَا السِّرُ أَوْدَعَــــــا

تُؤَجِّجُ فِيْهَــــا الرُّوْحُ مَا أَطْفَأَ النَّــــــوَى

وَتُسْكِنُ فِيْهَـــا النَّفْسُ مَا الْبُعْدُ أَوْجَعَــــــا

فَقُلْتُ وَفِي قَلْبِـــــي مِنَ الْهَجْرِ غَصَّــــــةٌ

تُحِيْلُ الأَسَى فِي الْقَلْبِ سُهْدًا وَأَدْمُعَــــــا:

فَوَاللهِ مَا فَرَّطْتُ فِي الأَرْضِ وَالْهَـــــوَى

وَمَا كُنْتُ قَبْلَ الْيَوْمِ بِالْمَالِ مُوْلَعَـــــــــــا

وَمَا كُنْتُ نَحْوَ الأَهْلِ يَوْمًا مُقَصِّـــــــــرًا

وَمَا اخْتَرْتُ عَنْ طَوْعٍ مِنَ الْبُعْدِ مَوْضِعَـا

وَلَكِنَّ للأَقْــــدَارِ فِي النَّفْسِ رَهْبَـــــــــــةً

تُحِيْلُ حَيَاةَ الْمَرْءِ عُمْرًا مُضَيَّعَـــــــــــــا

ثَقِيْلٌ عَلَى قَلْبِـــــــــي الْبُعَادُ وَمُـــــــــرُّهُ

وَأَثْقَلُ مِنْهُ مَا اشْتَكَــــى الْقَلْبُ وَادَّعَــــى

وَهَيْهَاتَ أَنْ يَرْضَى بِعُذْرِي وَحُجَّتِــــــي

إِذَا كَانَ عُذْرِي بِالْمَرَارةِ مُتْرَعَـــــــــــــا

فَمَا الْعُذْرُ مَقْبُولٌ وَلا الْجَهْرُ نَافِـــــــــــعٌ

لِذَاكَ كَتَمْتُ السِّرَّ فِي الْقَلْبِ مُوْجِعَـــــــا

3 ـ 3 ـ التّكثيف المعجميّ:

يعمد الشّاعرمحمّد نعيم بربر في كتابته الألم في ديوانه هذا “جراح الغربة” إلى تكثيف المعاجم عبر التّركيز في كلّ قصيدة على معجم بعينه، يجمع فيها من العبارات الحاملة معانيه ما استطاع إليه سبيلا، وهي معاجم تجتمع كلّها لرسم صور الألم المتنوّعة التي تكتبها نصوص الدّيوان، ومنها نذكر:

* معجم القبح:

                 تَقِيٌّ وفَاجِر

بُلِيْتُ وقَدْ يُبْلَـــــى تَقِـــــــيٌّ بِفَاجِـــــــــــرِ

طَبِيْعَةُ رِجْسٍ ، مِنْ قَدِيْـــــــمٍ وحَاضِـــــرِ

طَغَيْتِ ومَا كَانَ ابْتِلاؤكِ لـــــــــي  سِوَى

بَشَاعَةِ شَيْطَانٍ على وَجْــــــــهِ كَافِــــــــرِ

وَجُرْتِ كمَــا الْفُجَّـــــــارُ مِنْ غَيْرِ حَسْرَةٍ

على شَهْوَةِ الْعُشَّاقِ ، جَوْرَ الْمُقَامِــــــــــرِ

ذَبَحْتِ  بِطُغْيَـــــانِ الْغُرُوْرِ نُحُوْرَهُـــــــمْ

صَنِيْعَةَ أهْلِ الْفُسْـــــــقِ بَيْنَ الْحَرَائِـــــــرِ

جَفَاؤُكِ مَا كَانَ اصْطِنَاعــــًـــا ولا غِوىً

حَقِيْقَةُ قَلْبِ الْمَرْءِ ، رَهْنُ الْمَظَاهِــــــــــرِ

تَكَشَّفْتِ عَنْ حِقْـــدٍ وكِذْبٍ وَغَيْـــــــــــرَةٍ

بِخِسَّـــةِ مَغْرُوْرٍ ، ودَعْوَى مُكَابِـــــــــــرِ

وأفْضَيْتِ مِنْ هذِي الْمَسَـاوِي بِلَوْعَــــــةٍ

كَمَا سَالَ دَمْعُ الْعُهْرِ ، مِنْ عَيْنِ مَاكِــرِ!!

*معجم الوحدة:

صَدَى الصَّمْت

أَعِيْشُ وَحِيْدًا مِنْ صَدَى الصَّمْتِ مُتْعَبـًـا

فَلَوْ كُنْتُ فِي سِجْنٍ لَكَلَّمْتُ سَجَّانِـــــــــي

وَمَا كُنْتُ قَبْلَ الْيَومِ ، أَشْكُو وَإِنَّمَــــــــــا

يَزِيْدُ صَدَى صَمْتِي ، هُمُومِي وَأَحْزَانِـي

وَمَا كَانَ سِجْنِي ، غَيْرَ مَنْفَىً ، بَغُرْبَتِـــي

وَحُرَّاسُــــهُ مِنْ جِنْسِ قَيْدِي وَقُضْبَـانِـــي

وَهَلْ تَسْمَعُ القُضْبَــــانُ أَنَّاتِ مُتْعَـــــــبٍ

وَشَكْوَى غَرِيْبٍ ، مِنْ عَذَابٍ وَحِرْمَانِ؟!

وَهَلْ تُوْجِعُ الشَّكْــــوَى تَعِلاَّتِ مُثخَـــنٍ

جِرَاحَاتُهُ مَنْفَىً ، وَغُرْبَــــــةُ أَوْطَـانِ ؟‍‍!

*معجم الوجع:

             جِرَاحُ الشَّوْقِ

يَا جِرَاحَ الشَّوْقِ عَنِّي لَمْلِمِــــي

حُرَقَ الْوَجْدِ وَحُمَّى الأَلَـــــــــمِ

فَكَفَانِي عَطَشُ الرُّوْحِ ظَمــــــًا

يَتَلَظَّى مُحْرِقـًا نَبْضَ دَمِـــــــي

يَنْفُثُ الأَحْزَانَ ، كَالْجَمْرِ عَلَــى

جَسَدِي الْعَارِي ، كَشَكْلِ الصَّنَمِ

مَزَّقَتْـــهُ شَهْوةُ الشَّوْقِ غِــــوًى

فِي خَيَـالاتِ الرُّؤَى وَالْحُلُــــمِ

وَبَرَتْــهُ غُرْبَـــةُ الرُّوْحِ أَســـًى

تَكْتَوِي نَارًا ، بِطَعْمِ الْعَلْقَــــــمِ

يَا لِجُرْحٍ غَائِرٍ فِي جَسَــــــدِي

مِنْ مَتَاهَاتِ الْفَنَــــا وَالْعَـــــدَمِ

كَيْفَ يُشْفَى ، وَجِرَاحَاتُ الْهَوَى

أَذْبَلَتْ عُمْرِي ، وَأَدْمَتْ لِمَمِــي

كَيْفَ يُبْرَا ، وَتَبَارِيْحُ الْجَــــوَى

أَلْهَبَـــتْ فِيهِ هُمُومَ الْهَــــــــرَمِ

حِوَارٌ مَعَ الشِّعْر

إِنْ جَاءَ يَطْرُقُ بَابِي الشِّعْرُ مُشْتَكِيـًا

سَيَلْقَنِــــي خَلْفَ عَيْنِ الْبَابِ أَرْقُبُــهُ

فَكَمْ تَهَيِّأَ قَلْبِــــي ، كَيْ يُقَابِلَـــــــــهُ

وَكمْ تَحَمَّلَ صَبْــرًا ، إِذْ يُعَاتِبُــــــهُ

وَكَمْ جَرَى قَلَمِـي فِي غَيْرِ مَوْعِــدِهِ

فَخَالَفَ الْوَعْدُ حِسِّي حِيْنَ أَكْتُبُـــــهُ

وَكَمْ تَرَقْرَقَ دَمْعِي حِيْنَ أُنْشِــــــدُهُ

لَوْ جَاءَنِي الشِّعْرُ دَمْعًا لا أُكَذِّبُـــــهُ

فَكَمْ دُمُوعٍ بِقَلْبِـي كُنْتُ أَنْظِمُهَــــــا

وَكَمْ أَنِيْنٍ بِشِعْرِي كُنْتُ أَسْكُبُــــــهُ

وَكَمْ جِرَاحٍ بِقَلْبِي كُنْتُ أَجْرَعُهَــــا

كَالسُّمِّ يَقْتُلُنِي كَرْهًا فَأَشْرَبُــــــــــهُ

وَكَمْ هُمُومٍ بِفِكرِي كُنْتُ أَحْمِلُهَـــــا

كَمْ كُنْتُ أَغْرَقُ فِي هَمٍّ أُجَرِّبُـــــــهُ

لا عَنْ جَهَالــــةِ قَصْدٍ أَوْ مُعَانَـــدَةٍ

فَالْقَلبُ يَعْشَقُـــــهُ دَومًا مُعَذِّبُـــهُ !!

مُعَادَلَةٌ جَائِرَةٌ

أَبْكِي عَلَى زَمَـــــنٍ ضَيَّعْتُـــهُ بِيَــــــــــدِي

حَسِبْتُ فِيهِ الْمُنَــى وَالْمُرْتَجَـــى لِغَــــــدِي

جَمَعْتُ فِيهِ بَقَايَــــــا حَسْرَةٍ وَأَســــًـــــــى

كَالْبَحْرِ يُلْقِي رَغَاوَى الْمَوْجِ فِي الزَّبَــــــدِ

لا خَيْرَ فِيهِ ، وَإِنْ أَرْغَــــتْ مَدَامِعُــــــــهُ

فَرُبَّ دَمْعٍ جَرَى فِي الْعَيْنِ مِنْ رَمَـــــــــدِ

وَرُبَّ ضَرْبَـــةِ سَيْـــــفٍ غَيْر قَاتِلَــــــــةٍ

تُنْبِي بِوَقْعِ الأَذَى مِنْ أَعْيُنِ الْحَسَــــــــــدِ

وَلا حَيَــــــاةَ لِنَفْسٍ غَيْر نَادِمَـــــــــــــــةٍ

                                         _ سَرَابٌ

                           مَا أصْعَبَ الْعيْشَ تُؤْذِيْنِي مَوَاجِعُـــــهُ

                          وَأثْقَلَ الْهَمَّ يَغْزُو رِحْلَـــــةَ الْعُمُــــــــرِ

                          بَيْنِــي  وبَيْنَـــكِ ، آلافٌ  مُــؤَلَّفَــــــــةٌ

                         مِنَ الْمَسَافَاتِ والأضْــــــــواءِ والسَّفَرِ

                         كَيْفَ الْوُصُوْلُ وأرْضُ الْحُبِّ مُوْحِشَةٌ

                        مِنْ غَيْرِ ضَوْئِكِ يَا حُبِّـي ويَا قَمَرِي!!

                        كَيْفَ اللِّقـــــاءُ ومَدُّ الْهَجْرِ يَمْنَعُنِــــي

                    عَنِ اللِّقــــاءِ ويُغْوِيْنِــــي على حَذَرِ !!

* معجم الصّراع:

                                                   رفقا أيّها البشر

أَمَّا دَوِيُّ صَرِيْرِ الرِّيْـــحِ يَعْقُبُـــــــهُ

شَرُّ الْعَوَاصِفِ وَالأَهْوَالُ وَالشَّـــرَرُ

تَسُوْدُ فِيْهِ مِنَ الزِّلْزَالِ صَيْحَتُـــــــهُ

وَمِنْ جُنُوْنِ الصَّدَى سُخْطٌ وَمُزْدَجَرُ

إِذَا تَمَـــادَتْ بِجُنْحِ اللَّيْلِ عَاصِفَـــــةٌ

فَلَيْسَ يَعْصِفُ إِلاَّ الوَيْلُ وَالْخَطَــــــرُ

كَأَنَّمَا غَضَبُ الدُّنْيَـــــا إِذا غَضِبَـــتْ

هَوْلٌ عَلَيْنَا ، فَمَا يَبْقَـــــى لَنَـــا أَثَــــرُ

خَبَّأْتُ خَلْفَ جِدَارِ الصَّمْتِ أَشْرِعَتِي

خَوْفًا عَلَيْهَا ، فَبَعْضُ الْحِكْمَةِ الْحَـذَرُ

وَرُحْتُ أَبْحَثُ عَنْ طَوْقِ النَّجَاةِ بِهَا

أُصَارِعُ الْخَوْفَ فِي نَفْسِي وَأَزْدَجِـرُ!!

3 ـ 4 ـ اللغة الواصفة:

يتجاوز الشّاعر محمّد نعيم بربر في توظيفه اللّغة الواصفة في ديوانه أسلوبا جماليّا يشحن الخطاب بتعدّد مفاتيح العوالم الدّلاليّة، الأساليب المألوفة في “الكلام عن النّصّ داخل النّصّ ” إلى نزوع منه إلى تأسيس تعريفات نقديّة جديدة يطرحها بديلا عمّا هو سائد من مفاهيم نقديّة.

 من ذلك مثلا تعريفه الشّعر وتحديده وظيفتَه.

     * تعريف مخصوص للشعر: في هذا يقول الشّاعر:

“أعذب الشّعر خفقة من أنين

 وصدى حزن حزن حائر كالسّراب”

“إنَّ شِعْرِي مِرْآ ةُ ذَاتِي ، وفِكْرِي

قَبَسَـــاتٌ مِنْ نُورِ سِرٍّ دَفِيْـــنِ !”

  *وظيفة الشّاعر: يحدّها الشّاعر في ديوانه هذا بالفتح المبين لمجاهل المعرفة والحكمة، باعتباره بطلا رسولا، وفي ذلك يقول:

        قَدَرُ الشَّاعِرِ مَنْفًى  واغْتِرَابُ

        مُدُنُ الدُّنيَا لَهُ ، سِجْنٌ وبَــابُ

      يَدْخُــــلُ الشَّاعر فيْها  فاتــحًا

       وَلَهُ عنْها  سُــؤَالٌ  وَجَـــوَابُ

        يَسْأَلُ التَّــــارِيْخَ عَنْ أمْجَادِهَا

      هَلْ لهَا فِيْهِ ، سِجِلٌّ أوْ كِتَابُ ؟!

المجد الأدبيّ

إِنَّ شِعْرِي مَجْدِي ، وَحِلْيَــةُ دُرِّي

أَقْتَنِيْـــهِ ذُخْرًا ، لِمَاضِي كِفَاحِـــي

وَلآتِـي الأَيَّــامِ أَحْفَظُ ذِكْــــــــرِي

إنَّ مَجْـــدِي فِي عُنْفُوَانِ أَدِيْـــــبٍ

أَرْيَحِـــيٍّ ، عَظِيْمِ شَأْنٍ وَقَــــــدْرِ

إِنَّ مَجْدِي فِي شَاعِــرٍ عَبْقَـــــريٍّ

عَمَّ بِالْمَجْدِ ، شِعْــرُهُ كُلَّ عَصْـــرِ

أَتَجَلَّــــى فِيْهِ وَإِنْ كَــانَ أَعْمًــــى

أَوْ حَبِيْسًـــا فِي سِجْنِهِ كَالْمَعَـــرِّي

حَسْبُــهُ أَنْ يُعَدَّ فِيْنَـــــا رَسُـــــولاً

حَسْبُـهُ الشِّعْرُ ، آيَةً حِيْنَ يَسْــرِي

فَكِبَارُ الشُّعَارِ كَانُــــــوا دُعَـــــاةً

ضِدَّ ظُلْمٍ ، وَضِدَّ بَغْــــيٍ وَكُفْرِ!!

*نقد الشّعر الحديث المغنّى: يذمّ الشّاعر فيه نظما يغنّى ليبكي قريضا مهجور منسيّ، فيقول:

أَفْسَدَ الشِّعْرَ مَعْشَرٌ جَعَلُــــوهُ

سِلْعَةً تُشْتَرى ، وَسَمُّوهُ فَنَّـــا

شَوَّهُوا صُوْرَةَ الْغِنَاءِ بِنَظْـــمٍ

حَسِبُوهُ كَالشِّعْرِ حِسًّا وَمَعْنَـــى

أَفْرَغُوهُ مِنْ كُلِّ ذَوْقٍ وَحُسْـــنٍ

حِيْنَ أَضْحَى سَقْطُ الْكَلامِ يُغَنَّـى

 َمْ شُعُورٍ فِي النَّفْسِ يُولَدُ مَيْتــًا

 وَقَرِيْضٍ فِي النَّظْمِ أُشْبِعَ دَفْنَــا

 كَمْ جَدِيْدٍ فِي الشِّعْرِ نَبْحَثُ عَنْهُ

حِيْنَ يَلْقَى الْقَدِيْمَ ، يَهْرُبُ مِنَّــا

 وَنَشِيْدٍ فِي الْقَلْبِ مَا زَالَ حَيـًّــا

 مِنْ قَدِيْمٍ وَإِنْ تَبَاعَدَ عَنَّــــــــــا

إِنَّ أَحْلَى الْغِنَاءِ مَا كَانَ شِعْـــرًا

     يَتَآخَى فِي الْفَنِّ صَوْتًا وَلَحْنَـــا

بنقده هذا ينأى الشّاعرفي الخطاب بالقصيدة عن حدود اعتباطيّة القول، إلى رحاب الاختيار ومسافات الوعي، رحاب التّأمّل والتّفاعل الفكريّ، رحاب فيها يشكل الشّعر باللغة لغة أخرى غير لغة الانفعال، لغة نقديّة أكثر جمالا وأشدّ تعبيرا وأدق وصفا، و أقدر انفتاحا على ممكنات اتساع المعنى وديناميكية الخطاب.

4 ـ كتابة الألم، تفرّد الخارطة الإبداعيّة:

كلّ شاعر يرسم لذاته الشّاعرة خارطتها الإبداعيّة

4 ـ 1 ـ جدليّة الألم واللّذّة في ديوان “جراح الغربة”:

رغم العتبات التي تزجّ بالقارئ في سؤال كتابة الألم في هذا الدّيوان منذ العنوان “جراح الغربة”، عتبة الغلاف، ورغم ما يثقل كاهل الشّاعر من آلام متنوعة تتزاحم ليكتبها شعرا، ورغم التّكثيف المعجميّ لشتّى وجوه الألم ومحمولاتها الدّلاليّة، فإنّنا نظفر في الدّيوان بنصوص صادحة باللّذّة عشقا وفرحا بالوصال، غزلا وتلذّذا بتقفّي بالوصف ينابيع الجمال، مدحا وتشريفا، فخرا وللذّات توصيفا. بل تتعدّى  كتابةُ اللّذّة استقلالها بقصائد خاصّة إلى مشاركةِ كتابةِ الألم الحضورَ في نفس القصيدة، باعتبار كلّ منهما شرط لتحقّق الآخر.

مثلا يقول الشّاعر في مقطع من قصيدة صُوْرَةُ شَاعِرٍ:

    (………………)

نَظَرْتُ بِمِنْظَـــارِ التَّشـاؤُمِ لِلْــوَرَى

فَأَبْصَرْتُ أَلْوَانَ الشَّقَـــا بِشُعُــورِي

وَعُدْتُ بِمِنْظَــــارِ التَّفَاؤُلِ نَاظِـــرًا

إِلَيْهِمْ ، لأَلْقَـــى مُتْعَتِي وَحُبُــورِي

فَأَيْقَنْتُ أَنِّــي بِالتَّفَــــاؤُلِ وَالشَّقَـــا

سَوَاءٌ  وَأَنَّ الحُزْنَ مِثْلُ سُـرُوْرِي”

في هذا المقطع الشّعريّ يطرح الشّاعر معنى مخصوصا لجدليّة الألم واللّذّة، معنى لا تفاضل فيه للّذّة على الألم كما هو سائد، بل هما فيه متناظران متعادلان، قدرا للإنسان عليه أن يتلقّاه في أيّ وجه من وجهيه بالرّضى والتّسليم، مفهوما يجافي فيه الألم زاوية الانفعال التي نحشره فيها ليصبح “ليس إحساسا فقط وإنّما أيضا عاطفة تمكّن من انبثاق مسألة المعنى”(4)

*الفخريّات وإشكاليّة اللّذّة والألم:

 يجيئنا الشّاعر في ديوانه “جراح الغربة” بالفخر موضوعا في بعض قصائده تجتمع فيه اللّذّة والألم نبضت ساريا في عمر الشّاعر، وصراعا دائرا بينه وبين الآخر في نزعة رومنطيقيّة عجيبة، افتخارا بصفة الأديب والشّاعر وتباهيا بها وبرسالته اللإنسانيّة التي تذكّر بنبيّ جبران والشّابّي، لكنّها لذّة فخر مضمّخة ألما في كنف وعي مريربتهاوي منزلة هذه الصّفة في المجتمع المعاصر لتهاوي القيم الإنسانيّة ولتهاوي قيمة القراءة، وكأنّه يؤكّد  الفكرة القائلة: “ينتابك ألم شديد لكنّه أيضا لذّة” (5).

فنلفيه في قصيدة “المجد الأدبيّ” متغنّيا:

الْمَجْدُ الأدَبيُّ

إنَّ مَجْدِي في أَنْ أَكُوْنَ أَدِيْبًــــــا

لا يُوَازِيْهِ فِي الْعُلى أَيُّ أَمْــــــــرِ

وَحَيَاتِي فِي الشِّعْرِ خَيْرُ دَلِيْــــلٍ

عَنْ طِلابِـــي لَهُ وَرِفْعَةِ قَــدْرِي

مَا تَنَازَلْتُ فِي حِمَى الْفِكْرِ يَوْمًــا

عَنْ قَنَاعَاتِي أَو مَبَادِىءِ فِكْــــرِي

ثمّ سريعا تتلاشى لذّة التّغنّب لتحلّ محلّها مرارة الشّعور بالغربة بين النّاس فيقول:

قَدْ تَغَرَّبْتُ كَـــي أَظَلَّ مَصُوْنًــــا

فِي حَيَاتِي ، أَعِيْشُ رِحْلَةَ عُمْرِي

وَتَحَمَّلْتُ مِنْ أَذَى النَّاسِ شَــــرًّا

هَدَّ جِسْمِي ، وَفَاقَ طَاقَةَ صَبْرِي

قَدْ خَبِرْتُ الأَذَى لَدَيْهِم غَبَــــاءً

بَيْنَ شَرَّيْنِ ، وَالأَذَى فِعْلُ شَـــرِّ

بُلَدَاءٌ ، فِي حِسِّهِمْ ، فِي هَوَاهُـمْ

جُهَلاءٌ ، فِي فِعْلِهِمْ جَهْلَ كِبْـــرِ

فُقَرَاءٌ ، فِي ذَوْقِهِمْ ، فِي حِجَاهُـمْ

سُخَفَاءٌ ، في عَيْشِهِمْ عَيْشَ هَــذْرِ

قَدْ أَصَمُّوا أَذْهَانَهُمْ ، فَاسْتَكَانُـوا

مُنْتَهَـى الدَّاءِ ، دَاءُ جَهْلٍ وَفَقْــرِ

*كتابة الألم وإشكاليّة النّزعة الحكميّة:

يبثّ الشّاعر نفسا حكميّا تقريريّا في ثنايا بعض قصائد ديوانه، تضحي معه كتابة الألم حقلا فلسفيّا منه تنبثق الحكمة، حكمة ذاتيّة الرّؤية يطرحها الشّاعر مقولة مثبتة لا جدال حولها، يطرحها شعرا ومرمى طرحه قول نقديّ، “أعذب الشّعر خفقة من أنين

                                                   وصدى حزن حزن حائر كالسّراب”

 قولا بديلا عن مقولة نقديّة سابقة سائدة:”أعذب الشّعر أكذبه”، بديلا يجافي شرط الكذب ويعتنق شرط الألم الذي تضحي كتابته ضربا من ضروب مكاشفة الذّات المفرد إنسانا، والذّات الجمع وطنا وأمّة، مكاشفة شرطها صدق البوح، ورسوخ العمليّة الإبداعيّة الأدبيّة في أديم المرجع نفسيّا واجتماعيّا وثقافيّا.

والشّاعر محمّد نعيم بربر بهذا النّفس الحكميّ في قصائده يقدّم لنا الألم “باعتباره مصاحبا أساسيا لمسعى تحويل الذات”(6)، تتجاوز كتابته تدوين انفعالات الشّاعر العاطفيّة والنّفسيّة إلى تقديم تفاعلاته الفكريّة مع المقولات الفكريّة والنّقديّة السّائدة. وهو بذلك يجعل قارئه يواجه سيلا من الإشكاليّات منها:

 هل يمكن أن يصبح الألم قادرا على التّحوّل من مجرد تيمة شكوى إلى آليّة من آليّات التّغيير بناءً وتعديلا وتوجيها؟

هل الانكفاء على الألم غرق في بوتقة البوح الانفعالي أم اختيار رؤية إبداعيّة تكاشف الذّات الإنسانيّة في وجودها الوجدانيّ والفكريّ تصدّيا للحداثة المادّيّة الصّناعيّة التي تجور على ذاك البعد الإنسانيّ؟

هل يؤكّد الشّعر بهذا الطّرح قول دافيد لوبروطون “أنْ  يقيم الألم داخل نص الكاتب فتلك هي الطريقة الأصوب لخلق تصالح بين الكاتب وألمه.” (7)

ألا نضحي بهذا الطّرح الشّعريّ أمام أَلَمَيْن: الألمِ معيشا وكتابته التي تُعدّ وجها من وجوه فعل الكاتب الشاعر في محنته، والألم المكتوب مقروءً، معيشا، والكتابة النّقديّة عنه، وجها من وجوه الفعل في محنة ألم التلقي، باعتبار أنّ “الإنسان يتعذّب دائما من المعنى، ومن ثمّة بتعيّن عليه الفعل في محنته” (8)، فعل تلقي الخطاب جماليةَ بناء، وتلقيا متعددَ الأبعاد والمرجعيات الذاتية (المرجعية الثقافية والنفسية والفكرية)، هذه المرجعيات التي قد تُحمّل تيمةَ الألم دلالاتٍ تفيض عن النص، ممّا سفضي إلى ألم آخر مضاف هو ألم  تعسّر الالتزام بمقولات النص؟

 4 ـ 2 ـ مخاتلة الخارطة الإبداعيّة في هذا الديوان:

يبدو جليّا لقارئ ديوان “جراح الرّوح” للشّاعر محمّد نعيم بربر وشائج جامعة بين مدارات الألم في قصائده والأسس الموضوعاتيّة للشّعر الرّومنطيقيّ أي الغربة والحنين والحبّ والوحدة، وصراع الأنا والآخر. لكنّ توقّفا رصينا أمام هذا التّعالق يكشف مؤشّرا متينا دالّا على مخاتلة، مقصودة من طرف الشّاعر أو من طرف قريحته، أُسّها اختلاف الرّؤية الإبداعيّة في هذه القصائد عن الشّعر الرّومنطيقيّ، رؤية لا ينقطع الشّاعر فيها عن الآخر وإن اختلف معه وتصارعا، ولا يلجأ فيها إلى الطّبيعة حضنا بديلا وإن فتنته وأحبّها، والغربة فيها مادّيّة مدعاتها الهخرة طلبا لسعة العيش، أكثر ممّا هي نفسيّة فكريّة…

فهل يشكّل الشّاعر برؤيته هذه وجودا إجرائيّا للمقولة الفلسفيّة ” الألم، إذن، هو الاختلاف”(9)؟

 أم تراه في يؤسّس لرؤية تصويبيّة لتمثّلات الرّومنطيقيّة ومقولاتها؟

أم هو الدّفق الشّعريّ المعاصر بين الانفعال والإلهام، والتّراكم الثّقافيّ للشّاعر وسلطة التّجريب الإبداعيّ ما بعد الحداثة، يفرض لوجوده التّشكّل المخصوص من ديوان إلى آخر، وفي الدّيوان من قصيدة إلى أخرى؟

     إنّ الكتابة في هذا الديوان تضحي حقل ألم أدبيّا، وحقل احتفاء بالألم في الكتابة نقديا، حقلا لتشكيل رؤية إبداعيّة مخصوصة تطرح أسئلة الذات الكاتبة، وأسئلة الكتابة فعلا تخييليّا، وأسئلة النص فعلا منجزا واقعا، وأسئلة التلقي فعل قراءة واستقراء…

وهي بكلّ هذه الخصائص لا تتحرّر من مفهوم الحداثة الشّعريّة المعاصر، ما بعد الحداثة، الذي يشحن الكتابة الشّعريّة برؤية إبداعيّة مخصوصة تمتح من عدسة انفعالات الشّاعر عينا لتشكّل تيماتها وترسم ألوان الألم في هذا الدّيوان.

خاتمة:

يؤكّد الشّاعر بكتابته الألم في ديوانه هذا “جراح الغربة” أنّ الكتابة الأدبيّة مدارها الإنسان بشتّى همومه ومشاغله الذّاتيّة والنّفسيّة والعاطفيّة والفكريّة، والاجتماعيّة الجماعيّة الوطنيّة والقوميّة والإنسانيّة، هذا المدار الذي انتصبت حركة الحداثة الشّعريّة لتأسيسه بديلا عن المدار الأوّل للشّعر التّقليديّ أي الذّات الجمع، ذات القبيلة والأمّة التي تتلاشى فيها ذات الفرد وتغيب، وتصحيحا للرؤية الشعريّة الرّومنطيقيّة التي تجعل الذات الفرد مدار الكتابة الشّعريّة والوجود الإنسانيّ، تواجهها الذّات الجمع عاملا معرقلا  لخطاها فتلجأ إلى الطّبيعة سكنا وصديقا ووطنا يغني الشّاعر عمّن حوله.

وبكتابة الألم يرتحل الشّاعر بالكتابة من زاوية التّخييل إلى زاوية المتخيَّل، أي أثر الحدث الواقع في النّفس والذّاكرة باعتبار الذّاكرة مخاتلة لا تهب المتراكم فيها كما وفد إليها، وباعتبار الأثر مختلفا عن المؤثّر، لا يحمل منه إلّا ما علق.

لتظلّ الكتابة فعلا لا ينتهي بانتهاء القصيدة تماما كالألم وشمالا يزول بزوال أثره المحسوس، لذلك نلفي الدّيوان ارتحالا في مدار الألم أنواعا، ودرجات، ومدى تعالقٍ بنقيضه “اللّذّة” الذي منه يمتح الألمُ معناه ومشروعيّةَ وجوده، وليظلّ الشّعرُ صوت الألم وصداه وممكناتِه…

_________________________________

المراجع:

(1) عبد الرحمان تبرماسین: البنیة الإیقاعیة للقصیدة المعاصرة في الجزائر، دار الفجر للنشر و التوزیع، القاھرة، 2003،ط1 ، ص211.

(2) المرجع نفسه، الصّفحة نفسها.

(3) عز الدين إسماعيل، الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، دار العودة ودار الثقافة، بيروت، 1981، ص67.

(4) دافيد لو بروطون، تجربة الألم بين التحطيم والانبعاث، ترجمة فريد الزاهي، الدار البيضاء- المغرب، دار توبقال للنشر، ط 1، 2017، ص15.

(5) لوبروطون، المرجع نفسه، ص145.

(6) المرجع نفسه، ص147.

(7) م. ن، ص206.

(8) حسن الوزاني، كتابة الألم، صحيفة العرب، 13/04/2019.

 (9)مارتن هايدغر، إنشاد المنادى، قراءة في شعر هولدرلن وتراكل، تلخيص وترجمة: بسام حجار، بيروت-البيضاء، المركز الثقافي العربي، ط. I، 1994، ص. 18.

Please follow and like us:
Pin Share

About The Author

RSS
Follow by Email
Contact