اذكروا محاسن موتاكم / بقلم: منذر فالح الغزالي
اذكروا محاسن موتاكم
بقلم: منذر فالح الغزالي
طُلب منّي أن أسجّل شهادتي عن إحدى الشخصيّات السياسية كنت، بعد خروجها من المعتقل، الصديق الأقرب، وربما الوحيد لها. لم آخذ الأمر على محمل الجد؛ لكنّي فكّرت أن شهادتي ستسمح لي أن أسترجع مرحلةً هامّة، كانت تطغى عليها الأوهام الرومنسية، عايشتها مع تلك الشخصية، بكلّ التفاصيل التي يعيشها صديقان قريبان ذلك القرب الذي كان يجمعنا؛ وما دمت أحتفظ بمذكراتي شبه اليومية، فأستطيع أن أكتب سيرةً كاملةً للرجل بأقرب ما يكون إلى الحقيقة، دون مبالغاتٍ، أو أهواءٍ، أو تخمينات.
غير أنّ الأمر تفاعل في داخلي، ولم يتوقّف عند هذه الشهادة، وتطوّر إلى سؤال كبيرٍ: هل من حقّنا أن نكتب سيرة إنسانٍ عاديّ لم يطلب منّا، ولم يوصِ بذلك؟ وهل من حقّنا أن نثبّت أحداثاً من حياته ونخفي أحداثاً أخرى؟ وهل يحقّ لنا، ونحن نسجّل سيرة أيّ إنسان، مهما كانت حيثيته أو وضعه في مجتمعه، ومهما كان تأثيره في المحيطين به، أن نكشف أسراراً تتعلق بأشخاصٍ آخرين، كانوا على صلةٍ وثيقةٍ به، قد يبرز ذكرها مشاكل، وربما فضائح؟
نصف الحقيقة كذبةٌ كاملة
إذا كان لا بدّ من تسجيل شهادةٍ عن شخصٍ ما، أو كتابة سيرته، فلتكن شهادةً كاملة، بكلّ ما يملكه الشاهد من معرفةٍ بأفعال الشخصية، أو أقوالها، أو أحداثٍ كان للشخصية دورٌ بها بشكلٍ أو بآخر.
المشكلة تكبر، وقد تتحوّل إلى مأساة، أو فضيحة، حين يكون الشاهد هو صديق تلك الشخصية، الملازم لها، والمطّلع على أدقّ تفاصيل حياتها، بكلّ جزئياتها. هنا سيبرز سؤالٌ آخر، وهو سؤال أخلاقيٌّ بالدرجة الأولى: إذا كنت قد عرفت ما عرفت من حياة الرجل لأني كنت خليله الصفيّ ، ومكمن سرّه الذي توسّم فيه الكتمان والأمانة، هل يكون إبراز تلك الأسرار خيانةً للأمانة؟ لأنّ كشفها بعد موت الرجل تحرمه فرصة التوضيح أو التكذيب أو الاعتراف أو الدفاع، أم أنّ الإخلاص يكون للحقيقة، الحقيقة فقط، بغضّ النظر عن الأشخاص؟
ثمّ إن الأحداث التي عرفها كاتب الشهادة، سواءٌ شهدها بأمّ عينه، أو سمعها من الشخص ذاته، أو من أحد أفراد أسرته، لم يكن ليعرفها لو لم يكن موضع ثقةٍ عالية، وموضع احترامٍ سمح له بأن يدخل بيت الرجل وحياته، ويكون، أحياناً، طرفاً في خصوصياتٍ قد لا يعرفها حتى بعض أفراد أسرته، لسببٍ أو لآخر، وهذه ايضاً من الأمانات التي يجدر المحافظة عليها إلى أن تُدفَن مع صاحبها في قبره.
إذن، كما لا يجوز لنا أن نقدّم شهادتنا كاملةً في سيرة شخصيةٍ ما، تجنّباً للفضائح، وما قد تثيره هذه الشهادة من رؤيةٍ مخالفةٍ للصورة التي ارتسمت في ذهن مجتمعه، لا يجوز لنا أيضاً أن نقدّم شهادةً انتقائيةً تشوّه صورتها الحقيقية، صورة الإنسان الواقعي من دمٍ ولحمٍ وجوارح، من حبٍّ وكره، من خيرٍ وشرّ، من قوّةٍ وضعف، من جرأةٍ وخوف، من أنانيةٍ وغيرية…
المعيار هو: إما الحقيقة كاملةً أو لا شهادة، فلا قيمة للشهادة، أو للسيرة الذاتية، أو السيرة الغيرية، أو المذكرات إن لم تكن صادقةً وكاملة، والحقيقة الكاملة قد تنال من قيمة الشخصية، أو ممّن يحيطون بها من أهلها؛ لهذا تظلّ فكرة الشهادة، أو تجميع أوراق مذكراتي لكتابة سيرةٍ عن الرجل، حارّةٍ وحميمةٍ وحقيقية، مسؤوليةً كبيرة، تقترب من المغامرة. النتيجة التي أخشاها أن يفقد ذلك الرجل رمزيةً يمثّلها، نحن بأمسّ الحاجة إليها، في مجتمعٍ يعيش على الرموز، ولا يقبل إلا صورة الإنسان الكامل.
السيرة الذاتية بين الغرب والشرق
يحفل تاريخنا الأدبي بكتب السيرة مثل كتاب سِير الأعلام[i]، وكتاب المنقذ من الضلال[ii]….، وغيرها، والسير الشعبية المختلفة، كسيرة سيف بن ذي يزن، وسيرة عنترة… وغيرها من الكتب التي تمتلئ بالخرافات والملاحم البطولية التي لا صلة لها بالواقع؛ وفي الأدب المعاصر نشر بعض الكتّاب سِيرهم الذاتية بشكل قصصٍ أشهرها (الأيام) لطه حسين، وقصة (سارة) للعقاد، وغيرهم الكثير؛ لكنّ تلك السير كانت تركّز على جوانب يختارها كاتبها، من حياته، أو حياة الشخصية التي يكتب عنها، قد نستثني منها كتاب المنقذ من الضلال، حيث عرض الغزالي، بصدق، أزمته الدينيّة التي أدّت، فيما بعد، إلى تصوّفه. حتى إن فدوى طوقان تعترف في سيرتها المعنونة (رحلةٌ جبليةٌ صعبة): “لم أفتح خزانة حياتي كلها، فليس من الضروري أن ننبش كلّ الخصوصيات. هناك أشياء عزيزةٌ ونفيسةٌ نؤثر أن نبقيها كامنةً في زاويةٍ من أرواحنا[iii].”
في المقابل نجد السِّيَرَ الذاتية لدى أدباء الغرب أشبه باعتراف المؤمن أمام الكاهن، قيمتها تكمن في صدقها، والاعتراف بالأخطاء والخطايا بشفافيةٍ وتجرّد، ليتطهّر منها أمام الآخرين. بل إنّ الكثير منها أخذ عنوان (اعترافات)، أشهرها اعترافات جان جاك روسو[iv]، واعترافات تولستوي[v].
هذا الفرق في كتابة السيرة بين العرب والغربيين أساسه الحرية، ففي الغرب الحرية الفردية مُصانةٌ، ولا رقيب على الكاتب إلا ضميره، ما يجعل السِّيَر الذاتية في الغرب صورةً صادقةً لحياة الأديب وحال مجتمعه؛ فلا يخجل من عيبٍ ولا يخشى لوماً؛ ومن رأى أنها تمسّ خصوصيّاته، أو تؤثّر عليه فالقضاء النزيه كفيل بردّ المظالم.
يقول الدكتور إبراهيم العسكري في مقالةٍ له: “سوف تبقى السيرة الذاتية العربية مقيدةً ما دام مناخ الحرية العربي مقيداً[vi]“
السِّيَر الذاتية في الشرق لها حدود (أخلاقية)، فلا يستطيع الكاتب أن يقول كلّ شيءٍ عن نفسه؛ وهنا يبرز السؤال: أين الأخلاق في إخفاء نصف الحقيقة؟
وبعيداً عن الجانب الأخلاقيّ للمسألة، فهل يتقبّل مجتمعٌ قائمٌ، منذ قرونٍ طويلة، على تناقل سِيرِ الأعلام، والتاريخ المليء بالصور الأسطورية لشخصياته المهمّة، والحراسة الدؤوبة لهالة الكمال التي تلازمها، هل سيتقبل هكذا مجتمعٍ سيرة إنسانٍ عاديٍّ بكلِّ ما فيه من سماتٍ بشريّة، بخيرها وشرّها، دون تهويلٍ أو تشويه؟
لماذا نحن، كعرب، لا نقبل من الشخص إلا صورةً ملائكيةً خاليةً من العيوب؟
بين الرمزية والتقديس
إذا كانت الحقيقة لا تتفق وتقديس الرموز، التاريخية أو السياسية أو الأدبية… ، فليس من العدل أيضاً أن نكون مازوخيين نستمتع بجلد الذات، الذات العامة، الذات التاريخية والذات الوجودية، من خلال تحطيم تلك الرموز.
في كلّ ثقافات الأرض شخصياتٌ رمزية، ولكلّ شعبٍ رموزه التي يعتزّ بها، يبني لها المتاحف، ويكتب عنها المجلدات التي تؤرّخ لحياتها، وتدرس الظروف التي تشكّلت فيها، وتحوّلات حياتها منذ طفولتها المبكّرة حتى وفاتها؛ لكننا، كعرب، اعتدنا على المبالغة في تقديس الرموز، والإصرار على نقاء الشخصيات، لدرجة نزع الصفات البشرية عنها وإلباسها لبوسا قدسياً لا يقبل الخطأ.
حاجة المجتمعات لصورة البطل تتناسب طرداً مع درجة تخلّفها، وخلوّها من الإنجازات في كلّ عصر، فتلجأ للتمسك بتلك الرموز، وشيئاً فشيئاً، تخرجها من حالتها البشرية، وتتبرأ من أخطائها -وكل ابن آدم خطاء!- لتضعها في صورةٍ أسطوريةٍ لا يُسمح بالمساس بها، لأنها -أي الرموز- كلّ ما تبقى لتلك المجتمعات من وجودٍ حضاريٍّ بين أممٍ تتسابق في المنجزات على مختلف أشكالها. هذه الصورة البطولية يتّكئ عليها، ويعوّض، بانتمائه إليها، عجزه، أو تقصيره عن ركب التاريخ. البطل في الوجدان العربي لا يقبل إلا صورةً واحدةً طهريةً كاملة الخصال، تحيطها رهبةٌ تمنع المساس بها، لتتوارث الأجيال هذه الصورة مع هالة الرهبة، فتتحوّل إلى شخصيةٍ مقدّسة؛ لهذا اختلطت في تاريخنا صورة القائد العسكري بالحاكم برجل الدين، وامتزجت في صورةٍ واحدةٍ يعتزّ بها؛ والعربي اعتاد على وجود البطل في خياله، يحقّق من خلاله توازناً حضاريّاً وهمياّ، هي الصورة التي يحتاجها الخيال الجمعيّ المفتقِدُ للإنجازات الحضارية. هي الحقيقة، في الذهنية العربية، لا تقبل إلا وجهاً واحداً.
الشخصيات الرمزية، معالم في طريق الحضارة
عنترة بن شداد كان شاعراً جاهلياً وفارساً مقداماً، اشترى حريته بشجاعته؛ لكنّ الجمهور المتعطش لأي إنجاز لا يرضيه ولا يشبع ذاته إلا صورة عنترة الأسطورية كما وردت في السيرة الشعبية، وأيّ صورة مخالفة، مرفوضة لأنها تفقد الجمهور تلك الصورة التي يستند إليها في صراعٍ وجوديٍّ هو الخاسر فيه؛ وصلاح الدين الأيوبي، القائد العربي الإسلامي أخذ رمزيته من هزيمته الصليبيين في معركة حطين وفتح القدس، وهذا حسبه كرمز؛ لكن الجمهور الديني يأبى أن يقبل الوجه الآخر لصلاح الدين، وجه الحاكم الذي ذكرته كتب التاريخ نفسها، وفعله السياسي في الصراعات التي عصفت بالدولة العباسية في طورها المتأخر.
من منا يعرف شيئاً عن حياة جول جمال؟ وبالمقابل، من منا لم يقرأ عن جول جمّال، الضابط السوري الذي أخذ رمزيته من إغراقه الطرّاد الفرنسي أثناء العدوان الثلاثي على مصر؟
من كان سيسمع بسليمان الحلبي لو لم يقم بطعن القائد الفرنسي في حملة نابليون على مصر؟
لا أحد يهتمّ بالحياة الخاصة لطه حسين، يوسف وهبي، نجيب الريحاني، أم كلثوم، بليغ حمدي، نجيب محفوظ… والسلسلة الطويلة من الرموز في كلّ مجال؛ لكننا نعرفهم رموزاً، كلّاً في مجاله… وهذا حسبهم.
اذكروا محاسن موتاكم
لو أردنا الإشارة إلى حالة المجتمع العربي بعد الاستقلال، والبحث عن سبب تخلّفنا الحضاري، سيكون على رأس القائمة: الاستبداد، لا سيما في الدول التي حكمتها طُغَمٌ عسكريةٌ استخدمت القمع والاعتقال السياسي وسيلةً رئيسيةً ووحيدةً في تثبيت حكمها، والقضاء على معارضيها، فقضت بذلك على النخب الفكرية والسياسية والطاقات الشابة التي كان يمكن أن يُعوّل عليها في نهضة الأمة، فتسببت بهذا الخراب الشامل الذي وصلت إليه مجتمعاتنا العربية؛ فبديهيٌّ أن يكون ضحايا الاستبداد هم الرموز الأكثر أهميةً منذ النصف الثاني من القرن المنصرم؛ ومن الإنصاف، ومن الفائدة أيضاً، أن نعطي لتلك الرموز الصدارة في كلّ ما نكتب، لأنها تذكّرنا بالرمز الأسوأ في تاريخنا المعاصر، الاستبداد السياسي، الذي أدّى إلى ضياع أجيالٍ من شباب الوطن، وضياع الأمة بالتالي.
الرمز إذاً، لا الشخص، فالأشخاص يحملون صفاتهم البشرية بسيئاتها وحسناتها، إنما الرمز يشير للحالة بذاتها: ضحايا الاستبداد، من شهداء رأي أو مغيبين في السجون أو منفيين قسراً، دون الخوض في تفاصيل حياتهم الشخصية، التي قد تُفقِد البعضَ منهم رمزيّتهم، وبغضّ النظر عن انتمائهم الفكريّ؛ يساراً أم يميناً، ليبرالياً كان أم دينياً، ما قد يثير خلافاتٍ تضيّع الإجماع المطلوب حول هذه الرموز وما يمثّلون؛ فالغاية هي الإشارة إلى الحريات المغيّبة والديمقراطية المفقودة.
من هذا الجانب تتحوّل مقولة: اذكروا محاسن موتاكم إلى مقولةٍ صالحةٍ تاريخياً، تحفظ الحقيقة لأجيالٍ وأجيال؛ ومحاسنهم تكمن فيما يمثلون من رمزية، تشكّل إجماعاً على إدانة الاستبداد، ويكون التمسّك بهم، واستذكارهم في كلّ المناسبات، توثيقاً حيّاً لحقيقة المرحلة التاريخية التي عاشوا فيها، وتأريخاً موازياً للتاريخ الذي يسجله كتبة السلطان، تشكّل، من جانبٍ آخر، معارضةً، ولو صامتة، للنظم المستبدة… وهذا أضعف الإيمان.
منذر فالح الغزالي
بون 13/3/2022
[i] – سير أعلام النبلاء، المؤلف: شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت ٧٤٨ هـ)
[ii] – المنقذ من الضلال، المؤلف: أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (ت ٥٠٥هـ)
[iii] – فدوى طوقان: رحلة جبلية صعبة – دار الشروق للنشر والتوزيع – عمان ط2 1975 ص10
[iv] اعترافات جان جاك روسو كتاب سيرة ذاتية من تأليف جان جاك روسو، يتحدث فيه الكاتب عن ثلاث وخمسين سنة من حياته، بدأ بتألفيه سنة 1765 وانتهى سنة 1769، لكن الكتاب لم ينشر حتى 1782 أي بعد أربع سنوات من وفاته.
[v] – الكونت ليف نيكولايافيتش تولستوي (9 سبتمبر 1828- 20 نوفمبر 1910) من عمالقة الروائيين الروس ومصلح اجتماعي وداعية سلام ومفكر أخلاقي. يعد من أعمدة الأدب الروسي في القرن التاسع عشر والبعض يعدّه من أعظم الروائيين على الإطلاق.
[vi] – السيرة الذاتية: خيط رفيع بين الحقيقة والفضيحة – سليمان العسكري – مجلة العربي – مارس 2002
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ