×

قراءة سيميائيّة في ديوان “للرّوح أزاهير وثمار” للشّاعر حكمت الخولي/سوريا/بقلم الأستاذة منيرة جهاد الحجّار/ لبنان

قراءة سيميائيّة في ديوان “للرّوح أزاهير وثمار” للشّاعر حكمت الخولي/سوريا/بقلم الأستاذة منيرة جهاد الحجّار/ لبنان

قراءة سيميائيّة في ديوان “للرّوح أزاهير وثمار” للشّاعر حكمت الخولي

منيرة جهاد الحجّار/ لبنان

مقدّمة
تعالج هذه القراءة في ديوان “للرّوح أزاهير وثمار” للشّاعر حكمت خولي سيماء المرئيّ، والتّعالق
السّيميائيّ بين عنوان الدّيوان وصورة الغلاف وجسد القصائد، وسيميائيّة العنوان، وسيمياء المرئيّ الّتي
أبرزت ثنائيّة الرّوح والجسد، وحاسّة التّذوّق، وحاسّتَي السّمع والبصر، وحاسّتَي الشّمّ واللّمس، انتقالًا إلى
الكلام عن جدليّة الحياة والموت، وصولًا إلى المربّع السّيميائيِّ، فإلى أيّ مدى استطاعت السّيميائيّة أن
تكشف عن العلامات المرتبطة بالذّات الشّاعرة؟ وكيف أثّرت ثقافة المجتمع السّائدة في تشكيل الضّوء ورسم
مساره؟ وكيف تأثّرت الحواس بها؟ وكيف بدت جدليّة الحياة والموت ارتباطًا بالثّقافة السّائدة؟

1- سيميائيّة الغلاف
يَقسم الغلاف لونان، بنّيّ يحمل إشارة الحزن، والرّفض، طمعًا في الرّاحة والأمان (عبد الغنيّ،
2015، ص27)، وأصفر يحمل إشارة الإثارة، والغيرة، والتّعصّب، والدّهشة، والسّعادة (ص26)، ليمتزج
اللّونان عند المنتصف، في نقطة الالتقاء مع العنوان “للرّوح أزاهير وثمار” في منتصف الصّفحة، ليشكّلا معًا
محورًا أساسًا لروح الحياة، كأنّها إشارة على أنّ الرّوح لا تثمر إلّا مع أزاهيرها، وأزاهير الرّوح تكمن في
الفطرة الطّبيعيّة للحياة الّتي لا تحلو إلّا مع تذوّق مرّها، فلولا الحزن ما عُرف طعم السّعادة، ولولا الغيرة ما
عُرف الحبّ، ولولا الإثارة والرّفض ما بحثنا عن دروب السّعادة، ولولا هذه المتناقضات الشّعوريّة لما عرفنا
الشّعر، ولا عرفنا الكتاب، فالإنسان في حالة تأهّب مستمرّ للبحث عن الجمال، والكمال، والمجهول.
وتنتشر على مساحة الغلاف كلمات صغيرة باللّون الأبيض، والأبيض رمز السّلام والأمان
والشّجاعة (ص27)، كأنّها علامة على ما تكتنزه الكلمات من شجاعة توصل الرّوح إلى شاطئ السّلام بأمان
وسط هذه المعارك الّتي تخوضها مع الحياة.

1- التّعالق السّيميائيّ بين عنوان الدّيوان وصورة الغلاف وجسد القصائد

2

يعدّ العنوان عتبة سيميائيّة ينتقل القارئ من خلالها إلى فضاء النّصّ، ويشكّل التّعالق والتّناغم بين
العنوان والغلاف والقصائد ثالوثًا لجذب المتلقّي، وعليه فإنّ لعنوان “للرّوح أزاهير وثمار” دلالة تنسجم مع
صورة الغلاف، وتشكّل نبضًا يتدفّق في خلايا قصائد الدّيوان، فما يُزرع في الرّوح حتمًا سيثمر، “هل أثمرت
نيرانها إلّا الفناء” (الخولي، 2009 ، ص9)، وشكّلت العناوين الدّاخليّة للديوان علامات سيميائيّة تتناغم مع
دلالات الغلاف، فتنوّعت، من دعوة للفرح “[ادفن] همومك” وهي مفتاح الدّيوان، إلى انتقالات بين صفحات
الحياة وكدماتها بين رحيل حتميّ”أزف الرّحيل” (ص10)، وحقيقة فاسدة تختبئ خلف ثنايا الظّلام “الحقيقة”
(ص14)، وأحلام تكسّرت أمام حارس الأوهام “الحلم” (ص16)، وضاعت بين حطام الدّمار “الدّمار”
(ص18)، وغيرها من القضايا الّتي تواجه الإنسان، ليختتم الشّاعر قصائده بقصيدة بعنوان “فعل الحياة” كأنّها
خلاصة ونتيجة لما ورد في الدّيوان والعنوان وصورة الغلاف: أنّ الحياة تحلو بكلّ حالاتها، ومتناقضاتها
لينبعث النّور من عمق الظّلام “ويكُدّ… يخصب بالرّجاء مَلالَها/ فإذا البراعمُ تنتشي بظلاله/ وإذا الدّجى قد
جسّ عتمتَه السّنا/ فأنار حالكَ قاعِه بشعاعه” (ص152)، ولا تستمرّ الحياة إلّا بالحبّ “وترى الحياة بدون حرّ
ضلوعه / سأمًا ينوء على القلوب بظلّه” (ص151).

1- سيميائيّة العنوان “للرّوح أزاهير وثمار”
تنوّعت سيميائيّة العنوان بين التّناصّ والأسطورة.
 سيميائيّة التّناصّ
للرّوح ثمار، قول يتشابك مع ما جاء في الكتاب المقدّس “وأمّا ثمرُ الرّوحِ فهو: محبّةٌ، فَرَحٌ،
سلامٌ، طولُ أناةٍ، لطفٌ، صلاحٌ، إيمانٌ” (غل 5: 22)، إذ جعل الشّاعر للرّوح ثمارًا تتعالق دلالتها مع ما ورد
في الكتاب المقدّس، فتعدّدت الرّسائل بين دعوة إلى الفرح “ادفنْ همومكَ”، ودعوة إلى المحبّة “غيث المحبّة
سوف يَسقي/ موات الورد في قلب الصّخور.” (الخولي، 2009 ، ص113 – 114)، وإيمان تتعطّش له
الرّوح “شوقي إليكَ يذيقني حلو الهوى/ يا خالقي ويزيح عن قلبي الهموم” (ص62)، وصلاح تجلّى في
الدّعوة إلى التّسامح “حسن التّسامح لا المزيد من العذاب”(ص87)، ودعوة إلى اللّطف “بروحي أفتدي ألم
اليتامى” (ص113)، ودعوة إلى السّلام “نزرع الورد وأزهار السّلام”، “نشبك الأيدي لنبني عالمًا يتسامى

3

دون عنف أو صدام” (ص146)، فتتلاقى رسالة هذا العنوان مع ما جاء من رسائل لثمار الرّوح في الكتاب
المقدّس.
 سيميائيّة الأسطورة
يقول أحد الحكماء الصّينيّين “الخبز غذاء الجسد، والزّهر غذاء الرّوح”، فغذاء الرّوح أزاهيرها بما
تحمل من تناقضات شعوريّة، لتُخرج إلى الحياة ثمارًا ناضجة تغذّت من تجارب الحياة.
وتعدّ الزّهور لغة عميقة تعبّر عن مكامن الرّوح بلغة صامتة، وهي ترافق الإنسان منذ وجوده على
الأرض، فكان لكلّ زهرة أسطورة، ولكل زهرة دلالة، واستخدم الشّاعر الأنوار كرمز للأزهار البيضاء كما
وضّح الشّاعر في نهاية الدّيوان، كعلامة للغة نورانيّة ترمز إلى السّلام، والطّهارة “وفي عُباب من الأنوار
دافئة/ تُغسَّلُ الرّوحُ تصفو من هوى التُّرَبِ” (ص40)، ووردت بعض أنواع الورود باسمها كالياسمين، والفلّ
“يداعب فلّة أو ياسمينه” (ص64)، والزّنبق، والنّرجس (ص77)، وفي ذلك علامة نكوص إلى المرحلة
الأولى للإنسان، مرحلة الفطرة السّليمة التّي تتمثّل بالسّلام والحبّ، كما تجسّدها الطّبيعة بأبهى حلّة لها،
ولأزاهير العنوان دلالة انسجام مع الرّوح وصولًا إلى جني ثمار الحبّ والسّلام، فتكتمل الرّوح بتكامل العلاقة
بين الأزاهيروالثّمار.
2- سيمياء المرئيّ
يظهر سيمياء المرئيّ تعارضًا يبرز من خلال التّناقض بين الجسد والرّوح، بين الحرّيّة والعبوديّة،
بين النّور والظّلام، بين الحياة والموت، وغيرها.
إنّ البريق المنبعث من الحضارة لا يمثّل حقيقتها، فهي توحي بالانبهار، وتولّد وَهْم التّحضّر، إذ
يخفي بريقها سرًّا عن ظلمها واستبدادها، فكثّفت الضّوء حول قشورها حتّى لا يتّضح مبتغاها، كما في قول
الشّاعر “وبريق كلّ حضارة بنيت على/ أجسادنا ودمائنا عارٌ على جَبَهاتكم” (ص39)، حضارة أعلنت وهم
الحرّيّة، وأضمرت عبوديّة الإنسان “أنتم عبيد الأرض أسرى في دياجير الشّرور/ وعبيدُ إبليسٍ وأبناء
الجحيم” (ص38)، وعبوديّة الأرض تولّد صراعًا بين الرّوح والجسد، لأنّ الرّوح لا تلتقي مع المادّة، فيستقبل
الجسد تلك الإشارات الضّوئيّة لتشكّل فضاء توتّريًّا تعيشه الذّات الإنسانيّة، ما قد يؤدّي إلى تجاوز عتبة
الانبهار، وانفصال الذّات عن المكان وقد”يتعطّل تحديد المعطيات الزّمانيّة والمكانيّة ويختفي كلّ معيار قيميّ”

4

(فونتاني، 2010، ص78)، “أمجادُكم وعروشُكم ونعيمُكم […] فإلى الجحيم إلى التّلاشي والفناء/ أنتم
وماشادت حضارتُكم/ على أشلاء كلّ الأصفياء الأنقياء” (الخولي، 2009 ، ص39).
يتنقّل الشّاعر بالرّوح بين عالمين، عالم أرضيّ وعالم روحيّ، يتشتّت الضّوء في العالم الأرضيّ
وتضيع في متاهاته الفانية الذّات الإنسانيّة “درب الوجود مشيت في متاهاته” (ص40)، إذ تغيب “إمكانيّة
تركيب تقسيميّ جديد للأشياء.” (فونتاني، 2010، ص78)، وتظهر فلسفة الوجود مرتبطة بالفناء ومع تحجّر
العقول يسود الغموض، وهو انطفاء ضوء الحقيقة وظلامها “نفذتُ عبر الجماد الصّلد منخطفًا لعالم حيك من
نور وأنغام” (الخولي، 2009 ، ص40)، ومع هذا الانتقال تبرز كثافة الضّوء عبر الانتقال الزّمانيّ على
أجنحة الخيال إلى الجنّة الّتي يحلم بها الشّاعر، نحو عالم روحيّ انكشف فيه العالم السّيميائيّ عند عتبة الشّدّة
القصوى عبر عالم حيك من نور وأنغام “لعالم حيك من نور وأنغام” (ص40)، من خلال التّقمّص الوجدانيّ
الّذي صاحب الرّوح ارتقاء مع عالم الفكر “تسمو بمعرفة الأسرار والكتب” (ص40)، وبين هذين العالمين
صراع بارز بين الضّوء والظّلّ يشير إلى عدم استقرار الذّات في العالم الواقعيّ، إذ يتوقّف الضّوء المنبعث
بمجرّد التّوقّف عن الحلم، وعند عتبة مخيّلة الآخر، تحاول الذّات من خلاله أن تعوّض ما ينقصها ليأخذ هذا
العالم دور الوسيط الّذي يجمع بين الذّات والذّات نفسها، ليصل الشّاعر إلى نتيجة يخفّ فيها الضّوء تدريجيًّا
مع انتقال الرّوح من عالم الأرض إلى عالم السّماء الأزليّ وصولًا إلى النّور الكامل الّذي لا يشبه نور الأرض
“ويختفي في بهاء النّور واللّهب عند نقطة الالتقاء في حضن وطن الرّوح، في حضن الخالق “فتفرح الرّوح
للأوطان عائدة/ في حضن خالقها تُشفى من الكُرب” (ص41)، وهنا تكمن الولادة الحقيقيّة للرّوح.

  • سيميائيّة الرّوح والجسد
    يعدّ الجسد غلافًا حواسيًّا ونفسانيًّا “يقع موقع غشاء يفصل بين “الأنا” و”العالم” أو بين “الأنا”
    و”الآخر”، ويصل بينهما في آن واحد.” (زغودي، 2014، ص72)، وسنعمد من خلال هذه الدّراسة إلى
    استثمار أشكال المحسوس في الخطاب، ورسم ملامحه وكشف مساراته.
     ثنائيّة الرّوح والجسد
    بين ثنائيّة الرّوح والجسد نجد ثنائيّة واضحة بين الضّوء والظّل، لنعثر على الضّوء مكثّفًا منبثقًا من
    الرّوح “جذور الرّوح منبتها ضياء/ يشعّ من الألوهة من سناها” (ص45)، مقابل ظلّ يخيّم على ما يرمي إليه
    الجسد “وما المحسوس من جسد وكون/ سوى حجبٍ تظلّل محتواها” (ص45)، لمدى ارتباطه بالشّكل تركيزًا
    على ما يبثّه الشّكل من ضوء ساحر قد يغري من رآه، ويخلق هالة من الوهم حوله “ترينا من بريق الشّكل

5

سحرًا/ وفي المضمون تنأى في مداها” (ص45)، وهنا نجد انتقال ذات الشّاعر التّوتّريّ والصّراعيّ في رؤية
قاطعة حول ثنائيّة قدّمها بين العقل والجهل، إذ مثّل العقل جهلًا مع ارتفاعه إلى سلطة الضّوء الكثيف، فتحوّل
الضّوء المنبعث منه من نور إلى ظلام، عند تقمّصه لهالة الألوهيّة، وتشيّئه “تألّه عقلنا فازداد جهلًا”، ومع
هذا التّشيّؤ تحلّ الأنا المجتمعيّة مقابل أنا الشّاعر، فالأنا المجتمعيّة هي “أنا” تفرض الموت في الحياة “ويفنى
الكلّ في وهم الوجود” (ص47)، وأنا الشّاعر تدعو إلى الحياة في الموت، فتظهر ذات الشّاعر باحثة عن قيمة
تقيم من خلاله الذّات علاقة مع الضّوء بفضل رؤية متعدّية، وسيطها العامل المادّيّ المحسوس “فتغرق في
مجاهيل الخطايا” (ص46)، فتبدو الذّات في الحياة جامدة في مكان مغلق تحدّه المادّة، يتبدّد فيه الضّوء
“فأطفأنا شموع النّور فينا” (ص46)، وتظهر على أنّها ذاتًا راحلة، وعابرة إلى حياة في الموت حيث الخلود
عبر جسر الحياة. ينجم عن عدم التناظر هذا في التّبادل استياءً لدى الذّات الشّاعرة جعلها تتمرّد على واقعها
لتهرب خارج أسوار ما هو سائد وترسل رسالات تشارك في نشر القيمة لحماية الأنا، وبقاء الرّوح خالدة
بنقائها “وتبقى الرّوح تزهو في غناها/ وتثمر في فراديس الخلود” (ص47)، فبحث الأنا عن الأنا مستمرّ إلى
أن تلتقي بالرّوح، وما عدا ذلك فهو موت للأنا رغم وجودها في دائرة ضوء الحياة المغلقة “ونمضي في
ضباب الوهم دهرًا” (ص46)، ما أعلن عدم استجابة أنا الشّاعر للعوامل الخارجيّة، و جعله ذاتًا حسّيّة تؤدّي
دورًا وسيطًا “بين العالم الضّوئيّ والذّات – المتلقّية.” (فونتاني، 2003، ص105)، وهنا يظهر لنا التّواصل
غير المتكافئ مع المحيط، فيبدو معطّلًا، وظهر ذلك في التّشكيلات العاطفيّة السّطحيّة من خلال الحزن
“ويغمرنا الدّجى نزداد بؤسًا” (الخولي، 2009، ص46)، واليأس “ونمضي في ضباب الوهم دهرًا”
(ص46)، وما يميّز هذه التّشكيلة العاطفيّة هو القدرة على انتشار القلق بصورة متزعزعة عاطفيًّا، تتّضح
تدريجيًّا مع الرّحيل.
يشكّل الجسد طريقًا للملذّات يسكنه الشّيطان “فشيطان جسمي يسحّ قلبي/ سمومَ الأفاعي وهمس
الرّجيم” (ص51)، أمّا الرّوح فهي طريق يترفّع عن كلّ ما هو مادّيّ، طريق إلى اللّه “وروحي تتوق وتهفو
اشتياقًا لحِضن إله رؤوف رحيم” (ص51)، إذ بدا التّصوّف واضحًا بين خلجات الشّعر، لتجد صراعًا يخلقه
الجسد يدعو فيه الإدراك الحسّيّ للذّوبان في ملذّاته، فيأسر الذّات في دائرة مغلقة، دائرة الملذّات “فحبّي لذاتي
يذكّي الرّغاب” (ص51)، وتجد دعوة واضحة نحو ترك المعاصي للوصول إلى الأنا الأعلى.
 حاسّة التّذوّق
تمثّلت حاسّة الذّوق بخروجها عن المعنى الحقيقي للتّذوّق، فخرجت عن معنى تلبية الحاجات المادّيّة
للجسد، لتدخل ضمن سيميائيّة مشحونة بقيم دلاليّة يختزنها الخطاب، يرسل من خلالها الشّاعر رسائله من

6

منطلق فرديّ، إلى منطلق لغويّ جماعيّ يرتبط بكلّ متلقٍّ، وقد تمثّل ذلك في استخدام الشّاعر لضمير المتكلّم
الجمع، إذ لا زاد للرّوح إلّا بوجود الأحبّة “يا رفقتي زاد الخيال حنانكم” (الخولي، 2009 ، ص11)، ولم يجد
الشّاعر في تذوّق الدّواء أيّ نفع لشفاء الرّوح “ويا ليت الدّواء بذات نفع/ دواء فيه كلّ الموبئات يذرّ على كيان
الرّوح سمًّا” (ص12)، وتعدّ حاسّة الذّوق فعلًا إدراكيًّا وحسّيًّا جماليًّا “يرتبط بالتّجربة الحواسّيّة الّتي تعقد
الأواصر بين الإنسان وعالمه، وتتّخذ من جسد الأوّل مقرًّا لهذه الآصرة” (زغودي، 2014، ص125)،
فجاءت حاسّة الذّوق هنا بعيدًا من الحاجة الفيزيولوجيّة، لتعلن انتماء الشّاعر وتعطّشه إلى عالم الرّوح
“ونذوق الحبّ في دار البقاء” (الخولي، 2009 ، ص101).
 حاسّتا السّمع والبصر
إنّ السّمع يدرك ما هو مسموع، ويدرك البصر ما هو مرئيّ، و”البصيرة: عقيدة القلب […] وعلى
غير بصيرة أي على غير يقين” (ابن منظور، 1992، ص94: جزء2)، ويختلف البصر عن النّظر كما في
قوله تعالى ﴿وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى ٱلْهُدَىٰ لَا يَسْمَعُواْ وَتَرَىٰهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ (القرآن الكريم،
الأعراف: 198)، واجتمعت الحاسّتان معًا على البصيرة والوصول إلى المعرفة المطلقة في فهم الكون،
فجاءت الحاسّتان كإعلان للخلاص في اعتماد البصيرة، والبصيرة موطنها القلب، وقد تدرّجت حاسّة البصر
من النّظر “لو نظرنا في أديم الأرض” (ص43)، فالتّأمّل “وتأمّلنا بعمق” (ص 43)، وصولًا إلى البصيرة؛
فكانت إشارة إلى الخلاص في سلامة القلب من كلّ فساد يصيب العالم، وقد أسهمت أيضًا الحاسّتان في إعلان
انتماء الشّاعر إلى العالم الرّوحيّ في إدراك الذّات واندماج الأنا بالأنا الأعلى عبر عالم المثل العليا “إنّ من
أمسى بصيرًا ليس أعمى سوف يدري/ من أصاخت أذناه السّمع حرًّا سوف يدري” (الخولي، 2009 ،
ص43).
 حاسّتا الشّم واللّمس
تمثّلت حاسّة الشّم بدءًا من سيميائيّة العنوان، حيث يستفزّ الشّاعر ذات القارئ ويغريها لاقتحام
عالمه عبر تجارب مشوّقة “تثير فضولها إلى اكتشاف عالم مغلق لا يلوح منه شيء آخر غير رائحته”
(زغودي، 2014، ص136)، فتسيطر في العنوان رائحة الزّهر الّتي تشير إلى انبعاث الحياة.
ارتبطت رائحة الجنّة بالدّار، رمز الاستقرار والأمان والذّكريات “عبق الدّيار أريجه قد شاقني”
(الخولي، 2009 ، ص11)، أمّا رائحة الفساد فتنتشر في كون فسيح لا يعترف بالحبّ “يسحّ الحب في أوصال
كون/ تعفّن في دجى الشّرّ الحقود” (ص26)، “فتفوح رائحة الخيانة كالشّذى” (ص73)، كذلك فإنّ حاسّة

7

الشّم أعلنت انتماء الشّاعر إلى العالم الرّوحي، عالم المثل العليا، ويتّفق ذلك مع حاسّة اللّمس “الكلّ ينفث في
الخفاء سمومَه/ يرمي السّهامَ إلى المكان الموجع” (ص73).

 جدليّة الحياة والموت
بدا الموت حياة، والحياة موتًا “والعيشُ مقبرةٌ والعمرُ جلّادي” (ص60)، وتحت هذه الثّنائيّة تتبدّد
“النّحن” لتبقى الأنا نورًا طريقه الرّغبة، نورًا منغمسًا بالسّواد، والسّواد يرمز إلى الموت، وقد تلوّنت به
خطوات الجسد “اسوداد القتام، الدّياجير، ظلام” (ص51)، فجاء الحضور المادّي مرتبطًا بالعتمة كمعنى
للحضور المادّي مقابل غياب لعالم القيم، أظهر الانغماس بملذات الحياة، إذ برز استحضار عالم القيم الغائب
مرتبطًا بمكان آخر، في حضن اللّه، كردّ فعل سلبيّ زعزع ذات الإدراك عند الشّاعر فتوجّه نحو إبلاغ مدى
بطلانه، ومدى شوقه لعالم يأبى هذه الظلمة، ليحيا حياة تليق بلقب إنسان “طويتُ دروب الحياة وروحي/ تمجّ
الرّغاب وتأبى الظّلام (ص51)، وما الحياة، كما يصوّرها لنا الشّاعر إلّا في عالم الرّوح “ففي عالم الرّوح
فيض هناء/ وحبٌّ يموج بعطر الوئام” (ص52)، إذ انتقل الإنسان فيها من عبادة الإله إلى عبادة المادّة “عبّادُ
مالٍ وأبواقٌ لإفسادِ” (ص61)، ويستمدّ منها تشيّؤه متخلّيًا عن الصّفة الأساسيّة الّتي يتحلّى بها الإنسان، ألا
وهي المشاعر، وعند فقدان المشاعر، يرحل الضّمير، وتضيع الإنسانيّة على عتبات التّخلّف والفساد “تاه ابن
آدم زاغ في تشيّئه/ وأغمد الرّوح في جحر وأصفادِ” (ص61)، وما الموت إلّا جسرًا نحو الخلود “أرى في
الموت جسرًا للخلود” (ص69).
أمّا عن الحبّ فجاء مكتملًا في روح الخالق “أنتَ الوداعة في أزكى تجلّيها/ أنت الحنان وأنت
العطف مكتملًا” (ص62) ولشدّة عدل اللّه أظهر الشّاعر شوقًا إلى الموت، كمكان تشرق فيه روحه بعيدًا من
أرض عجنت على الحقد والغلّ “والأرض تطفو على غلّ وأحقادِ”، “تهفو لها الرّوح من شوق
لباريها(ص62)، وما الخلاص إلّا من عند الله “فاسكب عليها دموع الحبّ تطفيها” (ص62)، فباتت فكرة
الموت مريحة تعكس الحياة، على عكس فكرة الحياة الّتي لم تعد فكرة تشير إلى معانيها، وبات الموت هنا
كلمة مرادفة للحياة، بعدما كانت في الأصل معجميًّا كلمة نقيضة لها، فلا يستقيم العمر من دون حبّ، والحياة
من دونه صحراء “والعمر دون الحبّ صحراءٌ يباب” (ص50)، والشّاعر يعيش في دائرة الموت النّفسيّ في
ظلّ هذا الغياب للحبّ “الأرض تُشوى على أبواب محرقة” (ص62).

8

  • المربّع السّيميائيّ

الجسد إنسان الرّوح
المادّيّة الرّوحيّة
الحزن الفرح
لا أخلاق أخلاق
الأرض حضن الله
لا روح لا إنسان لا جسد

يتبيّن لنا من خلال هذا المربّع السّيميائيّ علامات ترتبط بالإنسان ككائن حيّ يتكوّن من روح
وجسد، روح ترتقي بالإنسان ليقطف أزاهير الحياة، ويجني ثمارها في حضن الله، وجسد يترجم وجود
الإنسان بشكل مادّيّ على الأرض، وكلاهما وسيلة للانتقال من الأرض إلى الملكوت الأعلى، ولهذا الارتقاء
متطلّبات ترتبط بحكمة أخلاقيّة تظهر بالمعرفة والوعي والشّعور بالذّات من جهة، وتعبيرًا عن الفضيلة وحبّ
الخير والإحساس بالقيم من جهة أخرى (شكشك، 2009، ص121)، ونجد شاعرنا يظهر الأخلاق كقيمة
غائبة عن الأرض “الظّلم فيه مقدّس والعدل عار” (الخولي، لا تاريخ، ص129)، على أنّها قيمة ثابتة في
ذات الشّاعر وعلى السّلوك الإنسانيّ الالتزام بها، وهي متغيّرة ونسبيّة في المجتمعات كما قال بعض الفلاسفة
إنّها “تختلف باختلاف بيئاتها وتتبدّل مع تقلّب الظّروف والأوضاع الّتي تنشأ في ظلّها” (شكشك، 2009،
ص121)، وهذه علامة تظهر عدم تقبّل الشّاعر للمبادئ السّائدة، واقتناعه أنّ الإنسان لا يسمو إلّا بروحه،
وأنّ اتباع الجسد وأهوائه ليس إلّا دليلًا على تشيّؤ الإنسان، وخروجه من دائرة الفطرة السّليمة له، فالإنسان
من جسد وروح، إن تغلّب الجسد على الرّوح غاب النّور، وحلّ الحزن في عالم لا أخلاقيّ، ولا إنسانيّ جعل
من اللّاأخلاق قيمة، ومن الأخلاق وهمًا موجودًا في لاوعي الشّاعر، يشدّه دائمًا نحو عالم الخلود، العالم الّذي
يحقّق له انعتاقًا من قيود الثّقافة السّائدة على الأرض “أريد انعتاقًا يزيل القيود/ لأمضي وشيكًا لدنيا الخلود”
(الخولي، 2009 ، ص81)، ونجد أنّ الإنسان مزيج من الرّوح والجسد، روح أزليّة، وجسد فان، ولأجل حياة

9

سويّة، وارتقاء أبديّ، لا بدّ من إشباع الجسد بما يتناسب مع ما تتطلّبه الرّوح، وأكرمه الخالق قائلًا في القرآن
الكريم ﴿فَإذا سَوَّيْتُهُ ونَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ﴾ (القرآن الكريم، الحجر:29)، نفخة تصله بالملأ
الأعلى، ويرتقي بها عن سائر المخلوقات، ولا يتطلّب منه ذلك التّخلّي عن أحد عنصرَيه (الروح، والطّين/
الجسد) للوصول إلى الكمال البشريّ المقدّر له، إنّما بالتّوازن بين خصائص العناصر الجسديّة، والعناصر
الرّوحيّة (سيّد قطب، 1972، ص2139: جزء4)، ولا يجد الشّاعر خلاصًا إلّا بالخروج من دائرة الأرض
الضّيّقة إلى حضن الله، حيث الكمال الرّوحيّ.

خاتمة
تحمل المدوّنة الشّعريّة العديد من القضايا المهمّة في الحياة، والكثير من الرّموز، إلّا أنّني لضيق
الوقت، ولأنّ قراءتي محدودة بدقائق معدودة، اخترت بعض ما جاء فيها من قضايا، وقد برز الشّاعر متصوّفًا
في شعره، توّاقًا إلى الله، مستاءًا من واقع مرير يلفّ الأرض وينشر فيها الفساد، معلنًا أن الحياة في الرّوح،
والرّوح لن ترتقي إلّا في الموت، عند الارتقاء إلى العالم الرّوحيّ الأزليّ، حيث تثمر الرّوح بعد أن أزهرت
في الكون وتنقّلت بصبر بين ما ترشفه من تجارب الحياة الدّنيا.
وتبدو آثار استنكار الواقع واضحة عند الشّاعر، وأظهرت تشكيلة الضّوء قطْع صلته مع الثّقافة
السّائدة، إذ يحاول المشاركة في تسليط الضّوء، وتغيير مساره في الحياة الدّنيا نحو عالم روحيّ، يرتقي
بالمجتمع من الظّلمة والمادّة، إلى النّور، ولا تتحقّق هذه الفكرة إلّا من خلال تجاوز النّفس لكلّ ما يقيّدها
بالجسد المادّيّ، وهذا الاستياء قد يمنح للحياة معنى، إذ لا طعم للقيمة إلّا بمعرفة نقيضها، فلولا الظّلام، ما
عُرف النّور، ولولا الشّعور بالحزن ما عرفنا شعور الفرح، ولولا هذا النّقص في الحياة لما بحثنا عن الكمال،
وإنّ أزاهير الحياة تثمر في الرّوح، ولولا هذه الأزاهير ما أثمرت الرّوح.
وهكذا فإنّنا نجد بين أبيات الشّاعر دعوة نحو ارتقاء الرّوح، ومواجهة الفساد، وبرز ذلك جليًّا في
عدم الرّضى عن الواقع، وفي المطالبة بالاتصال بعالم مرئيّ كامل لا يتّخذ مساره إلّا في معرفة الذّات لله،
وإنّ هذا التّحولّ في الفطرة السّليمة للإنسان السّويّ جعل الشّاعر يوجّه البريق المكثّف نحو عالم آخر، يذيب
المعالم والأشكال المرئيّة للعالم المادّيّ، كمحاولة من ذاته الشّاعرة لبناء العالم، إذ تتعدّى هذه الأنا الإطار
الضّيّق لها، لتشمل كلّ مستاء متمسّك بقيم الإنسان، وهذا لا يتمّ إلّا بالصّبر، ومحاولة إنتاج أنماط جديدة تساعد

10

على الاندماج في الواقع ومحاولة تغييره، لأنّ الأنا وحدها لا تكفي لتغيير مجتمع كامل تحكمه الأنا بتعدّد
رغباتها المادّيّة، وصولًا إلى المستقبل الأزليّ.

المصادر والمراجع
القرآن الكريم
الكتاب المقدّس

  • ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم (2003)، لسان العرب. بيروت: دار صادر.
  • خولي، حكمت (2009). للرّوح أزاهير وثمار. سوريا: مكتبة الأسد والمكتبات السّوريّة.
  • زغودي، دليلة (2014). سيميائيّة الجسد في ثلاثيّة أحلام مستغانمي. (أطروحة دكتوراه بإشراف أ.
    د. زين الدّين مختاري). جامعة أبي بكر بلقايد، الجزائر.
  • سيّد قطب (2014). في ظلال القرآن (ط1). القاهرة: دار الشّروق.
  • شكشك، أنس (2009). فلسفة الحياة، دراسة الفكر والوجود (ط1). عمّان: دار الشّروق.
  • عبد الغني، خالد محمّد (2015). سيكولوجية الألوان (ط1). عمّان: الوراق للنّشر والتّوزيع.
  • فونتاني، جاك (2010). سيمياء المرئيّ (ط2). تر.
Please follow and like us:
Pin Share

About The Author

RSS
Follow by Email
Contact