×

الناقدة سهيلة حماد/ تونس… قراءة بعنوان : “دفق تنامي الحكائيّة” لدى د. مختار أمين/مصر… في القصّة القصيرة “وهج”

الناقدة سهيلة حماد/ تونس… قراءة بعنوان : “دفق تنامي الحكائيّة” لدى د. مختار أمين/مصر… في القصّة القصيرة “وهج”

قراءة بقلم الناقدة سهيلة حماد/ تونس… بعنوان : “دفق تنامي الحكائيّة” لدى د. مختار أمين/ مصر…  في القصّة القصيرة “وهج”

=========

الدكتور مختار أمين

=============

السّرد :

سردٌ بمواصفاتٍ عالميّةٍ، ذُو جودةٍ عاليةٍ، يتماهى مع العنوانِ، من حيثُ وهجِ الوصفِ، وتوهّجِ الحكيِ… قصّةٌ ذاتُ بعدٍ إنساني، تنهلُ من صميمِ الواقعِ، مكسّرةً أغلالَه، كصرخةِ رعدٍ مدوّيةٍ… دونَ أن تتطابقَ معهُ تماما،  ركِبتْ قالَبًا ، على مقاسِها، منسجما مع خصائصها، في فنّها وفنّياتها… دون أن تفرّط في لحظة التّدويرِ هلاليّة الشّكلِ للجماعات المهزومة، وتتورّطَ في الترهّل رغم الطّولِ النّسبي الموظّف، الذي لم أتعوّدْهُ شخصيّا من القاصّ من خلال ما توفّر لديَّ، من قصص قصيرة كنت قد اطلعت عليها… 

حلّقتْ القصّةُ التي بين أيدينا في عالم الإبداع السّرمديِّ الخالدِ، مرفرفةً بأجنحةِ سحرِ  التّخييلِ، وجاذبيّةِ بساطِ كاريزما الحكيِ ، الذي لا يلتزم بحدودٍ. صانعة واقعها المفترضِ، مخترقةً  سماواتِ السّردِ، لتحتلَّ  فضاءً نورانيّا، فتستحيلَ بذلكَ نجمةً، في ثريّا  القصّةِ القصيرةِ، بفضل وميض عرضها في أبهى حلّة،  ودفق تنامي الحكائيّةِ، في حبكةٍ سرديّةٍ، تدقِّق في كلّ جزئيّةٍ وتفصيلةٍ، معتمدةً على التّدقيقِ، في اختيار اللّفظِ، مؤثّثةً بيئتَها من مجتمعِها، في حرفيّةٍ، خالقةً شخوصًا ثانويّةً وفق دوائرَ سرديّةٍ مساندةٍ لجذعِ الحكيِ، كالملح في الطّعامِ من دون زيادةٍ ولا نقصانٍ، تترشّقُ، ممشوقةَ القامةِ، تمشي بقباقبَ من فضةٍ، في هودجٍ من الأنغامِ، تحدثُه الأساورُ والخلاخلُ في نغمٍ  متناسقِ العزفِ، والدّقِّ، والنّحنحةِ، والرّّكز، والارتكاز، تمرّ أمامَ عدسةِ التّصويرِ، كومضاتٍ إشهاريّةٍ، تزيد في فتنة السّردِ، مستندة على  تقنيّةِ صانعها، في فنّ  الإخراج المسرحيّ، الذي  فعّل توظيفَ الإضاءةِ ببراعةٍ على الرّكحِ، بمساندةِ مهارةِ التّلاعبِ في توجيه عدسةِ الكاميرا لاقتناص اللّحظةِ المتأجّجةِ، المتفجّرةِ، المنتجةِ للصّورِ المكوّنةِ للمشهديّةِ…  إضافةً إلى فنّ  تقطيعِ السّيناريوهاتِ… مع بثِّ الرّوحِ فيها بفضلِ  تطعيمِ الحوارِ بمفرداتٍ محلّيّةٍ،  زادت في الإيهام بصدق الحدثِ والمواقفِ، كما ساهم الحوارُ في تسريعِ الحكائيّةِ وتفعيلها … قصّةٌ استطاعت أن تحتشد أزمنةَ الماضي والحاضر، عبر الاسترجاعِ، مننتجةً لحظاتٍ مضغوطةٍ، تُعلِّمُ وشمًا لدى القارئِ، لتدارُكِ المستقبلِ عبر التأمّلِ  بفضل السّرعةِ في التّفكيرِ والإنجاز لتغيير واقعٍ باتَ ينبُئُ بالانفجار… كأنّ كلّ الأزمنةِ مائلةٌ ماثلةٌ أمامنا على ظهر نيْزكٍ يسقطُ باتجاهِ الأرضِ في لقطةٍ بانوراميّةٍ نورانيّةٍ كوميضِ البرقِ… حدثٌ رئيسيٌّ تصدّرَ أحداثا جانبيّةً، سريرٌ توسّلَ بزَرِيبةٍ وبحرٌ يستجدي  حياةً وحبلُ نجاةٍ ومماتٍ لأجل بعثٍ سرمديّ أبديّ …  منجز يكشفُ عن أنثى- ظلُّ ظلالِ أخرياتٍ في الهنا والهناك- غير قادرةٍ أن تلجِمَ الرّغبةَ الجامحةَ المتّقدَة للمادّة… تتقاذفُها هواجسُ الغيرةِ.. أمام لامبالاةِ (الآخرِ)، (النموذجِ)،  (النّسخةِ المستنسخةِ)…

بدايةٌ قويّةٌ وسرعةُ إيقاعٍ، استولتْ على لبِّ القارئِ، اختطفتْه من واقعهِ  وعزلتْه عنهُ بعد أن أطفأت سُرُجَهُ، معطِّلةً كلَّ أنظمته، مُرجيةً كلّ التزاماته، واقتادتْهُ عنوةً نحو الحلبةِ …كما مكّنتْ السّاردَ من مسكِ لجامِ فرسِ الحكيِ، وتوجيهِه لبلوغِ النّهايةِ في أريحيةٍ وشموخٍ رغمَ مرارةِ المأساةِ… لعبت فيها الاستعارةُ دورا هامّا، في خلق.ِ صورٍ ذاتِ حسٍّ وإحساسٍ، وروحٍ ورائحةٍ، وذوقٍ وذائقةٍ متجانسةٍ لم تفصل بين الرّوحِ والجسدِ، رافقتنا الدّمعةُ كما الابتسامةُ، الضّحكةُ والشّهقةُ، والصِّراخُ المقاومِ للفناءِ، المستنجدِ بالبقاءِ، في وهجِ التّوهّجِ والانتقالِ من حالِ إلى حالِ، ساعد في إضفاء، حركيّةٍ على الحدثِ حتى لا يسأمَ الرّائِي من رتابةِ العرضِ… تقنيات  ساهمَت في توتّر هذا الأخيرِ، وإقلاقهِ…لأجلِ التّفكير بجدّيةٍ في مشاكلَ اجتماعيّةٍ حارقةٍ ظلّت  مسكوتاً عنها، بحجّةِ سموِّ الرّوحِ والتّعالي، بيد أنّ الواقعَ اللّامتوازِنَ بين المادّةِ والرّوحِ، الواقع بين مادّتين واحدةٌ من طينٍ وأخرى من ذهبٍ و فضةٍ ونحاسٍ؛ مُصابٌ بعمى البصيرةِ، المتنافِي مع كينونةِ الذاتِ لذات وجودها في ذات الوجود … بات يُنذرُ بكارثةٍ اجتماعيّةٍ أخلاقيّةٍ، قد تُقوّضُ المجتمعاتِ من الدّاخلِ، في حميميتِهٍ، معتديةٍ على قدسيّةِ علاقةٍ مباركةٍ معمّدةٍ من الدّينِ والمجتمعِ… أمامَ المغرياتِ البديلةِ المتوفّرةِ، سواء كانت

آدميّةٌ من التّابعينَ الخاضعينَ داخلَ أو خارجَ الأطُرِ الشّرعيّةِ..

أو عبر ترويضِ حيواناتٍ أليفةٍ- من الكلبِ إلى ظهرِ الحمارِ-

  أو تلك المستحدثةَ، التي ساهمتْ فيها الحضارةُ والتّكنلوجيَا والحداثةُ…

الأسلوبُ:

كان شيّقًا، رشيقًا، سلسًا، عذبا، جمعَ بين البلاغةِ والفصاحةِ، وبعضِ المفرداتِ العامّيّةِ، بملامحَ واضحةٍ رغم الحذفِ  والتّكثيفِ تكادُ تستمعُ إلى وقعِ حافرِ فرسِ السّردِ، وتلمحُ شدّةَ  فراسةَ السّاردِ النّمرودِ العليمِ… وتشمُّ ريحَ ورائحةَ  عرقِ الممثّلينَ أثناءَ تقمّصهمْ لأدوارِهم، من شدّةِ انسجامِ الآداءِ، مع مبنَى القصّةِ واتّساقِها مع بعضِها البعضِ، بشكلٍ أبرز حدّّةَ الصّراعِ مثبّتًا قالَبَ القصّةِ القصيرةِ، في  جذبِ الجماعةِ المغمورةِ- من المكلوماتِ البائساتِ اليائساتِ نتيجةَ سلبهنَّ حقًا مشروعا – في أمكنةٍ وأزمنةٍ مختلفةٍ، تجمعُ بينهنّ ظروفٌ متشابهةٌ، محدثةٌ لديهنّ وعيا خاصّا، مفرزةً سلوكاتٍ، قد تنحو منحى الشّذوذِ… لو لم تحتوها الأسرةُ، أو بالأحرى الآخرُ، في العلاقةِ الشّرعيّةِ، ونقصد (الزّوجَ) في إطارِ عقدٍ مباركٍ، من المجتمعِ تحت شعار  الإنسانيّةِ، بعيدا عن أيّ طائفةٍ من الطّوائفِ، قبلَ أن يُكسرَ قيدُ الأخلاقِ ويلبسَ ثيابَ العهرِ…

الرؤيا :

وباعتبارِ أنّ القصّةَ القصيرةَ فنٌّ، فقد نجحَ  القاصُّ فنّيّا بامتيازٍ، في إدارةِ الحكيِ بطريقةٍ حداثيّةٍ، كاسرا  الزّمنَ، من أجلِ تبليغِ رسالةٍ إنسانيّةٍ بليغةِ الأثرِ على نفسيّةِ  الفردِ وتوازنِهِ داخلَ الأسرةِ والمجتمعِ… لذلكَ حرصَ أن ينقلَ الانفعالاتِ والسّلوكاتِ مشفوعةً بحوارٍ بقصد تبليغِ الصّوتٍ، لنموذجٍ يكادُ يكونُ حيّا من واقعِ الحياةِ… في إطارِ ديمقراطيّةِ إتاحةِ الفرصِ للجميعِ، لتعبِّر كلُ شريحةٍ بعينِها بصوتِها، تاركًا المتلقّي واجمًا، مندهشًا، في إطارِ لعبةٍ سرديّةٍ تواصليّةٍ ذكيّةٍ بعيدةٍ عن الوعظِ والإرشادِ… محفّزةٍ المتلقِّي  من جهةٍ، و من جهةٍ أخرَى  بغاية دغدغةِ الوعي الذّكوري، ومواجهتِه  لتحمّلِ مسؤوليّةِ قرارتِه ونتائجِ تبعيّاتِ خياراتِهِ، في خضمِّ الفعلِ والفاعليّةِ وردّةِ الفعلِ والانفعالِ…

لتصويبِ سلوكِ الأفرادِ من خلالِ وعي وجودي لذواتهم ، يتماشَى  مع  الواقِع السّوسيولوجِي والسّايكلوجِي والبيولوجِي للفردِ وللأفرادِ الّذينَ تمّ استدعاؤهم، والاستنجادُ بهم  ليمرُّوا أمامَ عدسةِ المخرجِ-(السّاردِ العليمِ)*-  لإثراءِ الحدثِ ودعمهِ، لتعزيزِ إنسانيّةِ الإنسانِ، حتى لا تفقدَ ملامحَها في دوّامَة  الفقدِ والفراغِ المتواصِلِ، حاثّا الجميع عبرَ الإيحاءِ، على ضرورةِ مقاومةِ الوحدةِ والتوحّدِ، بالمحافظةِ على ثنائيّةِ تزاوجِ الذّواتِ وسكنِها واستكانِها، وترافقِها في الرِّفق بمرافقةِ الأزواجِ لبعضهما البعضِ خلالَ كينونةِ مسيرةِ العمرِ القصيرِ، المهدَّدِ بالفقدِ والفراقِ، في كلِّ لحظةٍ، لاستغلالِها من أجلِ التّوازنِ والموازنَةِ بين الرّوحِ والجسدِ، حتَى لا تفقِدَ الأملَ وتتهاوَى نحوَ بؤرةِ البؤسِ، والسّقوطِ في مأزقِ اليأسِ المحطِّمِ لكلِّ إرادةِ حياةٍ، الحاجبِ  لقبسِ الضّياءِ، كيلا يكتوِي الفردُ بنار الوحدةِ القاتلةِ، و لا تتحوّلَ الحياةُ عبئا ثقيلاً وفراغًا سالبًا وائدا مبيدا للجنسِ البشرِي… ليتمكّنَ الفردُ من خلالِ ذلكَ من المرورِ من المرحلةِ البهيميّةِ المشبعةِ للغرائزِ الأوّليّة الضّروريّةِ إلى الفعلِ الحقيقي، للبناء والنّماء والإشعاع، بعد كسبِ الثّقةِ في نفسهِ وفي محيطه، من خلالِ اقترابه من الآخرِ، وتفاعلهِ معه وقْعا وإيقاعا، في رقصةِ حياةٍ منسجمةٍ، بعد تحقّقِ القبولِ والرّضا، والتّزاوج، للتّكامُلِ والتّعايشِ  في  تناغمٍ فكريّ أدبي إنسانيّ في كنفِ الاحترامِ، دافعٍ لمستقبلٍ أجملَ ….يقيهِ كلَّ إحباطٍ قد يُورّطهُ ويدفعُ به إلى الانتحارِ والاستسلامِ لأمراضٍ نفسيّةٍ معرقلةٍ للفردِ  وللكلِّ .

                    سهيلة بن حسين حرم حماد

                 الزهراء تونس  04/03/2021

==========

=============

قصة قصيرة:

الوهج

عفت نفسها عنه، وحلفت بأنه لا يقربها أبداً، وتفوّهت بكلام غير لائق أمام زوجتيْ ابنيها وبنتها الشابة.

ـ ده أنا أنام في الزريبة كل ليلة ومايلمسنيش ابن الكلب الجربان.. أبو ديل نجس.

كتمت النساء من حولها أفواههن وهن يضحكن سراً، نظرت لهن في غضب ابتلعن ضحكهن في خجل، وتركتهن مسرعة متجهة نحو غرفتها.

أول مرة يخونها عزمها وتفقد قوتها وتشعر بالوهن أمام البنات، كانت أنفاسها المشحونة بالغيظ ترفع نهديها الثقيلين الضخمين من على صدرها في حركات سريعة.

مازالت تحتفظ بغرفتها أنيقة.. كل شيء مرتب نظيف.. سريرها الواسع العاليِ عليه دائر الدمور الأبيض بنقوش زرقاء بخيط الحرير لعصافير تطير، وأخرى تحط تشرب من المسقى، ودولابها البني الكبير بمرآته اللامعة بطوله في الوسط، ورائحة البخور تفوح في المكان..

اقتربت من المرآة.. ارتجفت، عيون المرآة ضمتها في حضنها.. ملأتها، نزعت في غضب الشال الصوف من على رأسها، فردت شعرها الأحمر الذي مازال طويلاً.. دائماً تبالغ بالاعتناء به، كما اعتادت نساء البيت أن ينشغلن به أيضاً، واحدة تشتري الحناء من السوق، وأخرى تعد الصبغة وتقوم بدعكه وصبغه، في المساء بعد الحمام تتركه لابنتها صفيّة لتمشيطه وهى واقفة.

كانت تسمع أنّاتها المكتومة، وأنفاسها الحارة تدور قرب أذنيها بلفحتها الخجلة المنفلتة رغماً عنها.. ويطن القلق عليها، تعرف أن ابنتها تجاوزت العشرين ولم يطرق العريس بابها بعد.

كثيراً ما تذكرها بشبابها.. ممتلئة بلا سمنة.. بيضاء.. جسمها يصرخ بأنوثة طاغية.. شعرها الأصفر بلا حناء.. وعيناها الخضراوان.

كانت ترتجف وهي تتعمّد حك جسمها الصهد بأمها، التي كانت تلمحها تحضن الأشياء في شرود بسمة ذابلة.. الزلعة الكبيرة.. أجولة الدريس الجاف، وحمار الدار الكادح بهيكله العظمي التي تعتني به، تركب على ظهره وهى تتأرجح صامتة منهكة، تغافل الكل إلا هي.. تعرف.. تعرف عنها الكثير.

تأملت عينيها الواسعتين المكحلتين بعناية واخضرارهما القديم، خطوط الزمن على الوجه رغم حرصها، ودعك الوجنتين الحمراوتين، ربما زادت الشفتين غلظة وانفرجت الأسنان البيضاء قليلا، والسمنة احتلت كل معالم الجسم.

نفخت ضيقاً وأعطت ظهرها لصورتها في المرآة، وهى تمس بقدمها الكليم الأحمر بأصابع قصيرة صلبة متشبثة بلونها الأبيض اللامع وأظافرها الحمراء، وشريان دم الحزن ينفجر على وجهها يكسو معالمه.

دارت الغرفة مرات ومرات وهي تسأل وتحاور نفسها..

“ليه الدار دي بيفروا منها الرجالة؟.

بيكرهوها ولا بيكرهوا اللي فيها؟.

نحيب النسوان في الليل بيسبق نباح الكلاب.. بيخرج من الشبابيك واللبواب الموروبة.. صهد بيبلع نسمة الهوا.. يتجمّد .. يبقى مارد كبير بيتمطع في الشارع مستني عابر سبيل يضمه في حضنه.. يدوخه ويزقه على أول دار.. يدخل مسحور يلاقي كل شيء في انتظاره.. يشيل عنه البرد والطل ويلاقي الهدمة واللقمة والضحكة والحضن الحنيّن”

كان هو ذلك العابر الشارد.. الذي ارتمى على عتبة الباب في خضة وحشة الغربة، والخوف مجهول غريب بيطارده.. يخرس لسانه.

في شرودها التائه جلست على جنب السرير.. أزيز صوته أخرج الآهة المكتومة، ارتكزت برأسها على عموده، اهتز جسمها هزات سريعة مع نهنهات مجروحة.. عامان أو أقل وتبلغ الخمسين من عمرها.

كان الزوج أكبر منها بسبعة عشر سنة.. مات من خمس سنين.. أتى به أهل البلد من مصر كوم عظم ملفوف في خرقة، وقفت العربة المخصوص أمام باب الدار.. قالوا:

ـ ما فيش فايدة يا خالة السل نحل وبره.. أيام باقية.

الولد الكبير صول في السلوم .. جاء قبل الدفنة ومكث ثلاثة أيام ورجع الكتيبة، والولد الثاني مكث عشرة أيام وعاد ليحفر مع جماعته من أهل البلد في الصحراء ليعمر مدينة جديدة على الحدود.

كانت تطلق صرخاتها مدوّية.. شقّت الجلباب من على صدرها.. لطخت وجهها بالطين ونثرته على شعرها وجسمها.

فاجأت الجميع بحزنها.. مرضت.. أربعون يوماً لم تتفوه بكلمة.. لم يدخل معدتها سوى لقيمات ليستمر النبض في القلب.

كانت تسمع سنيّة زوجة ابنها الكبير إسماعيل تضع فمها في أذن بدريّة زوجة ابنها الأصغر توفيق وهي تقول:

ـ ده طول ما كان غايب في مصر كانت ترفع الطرحة من على راسها وتدعي عليه.. “يجيني خبره.. ولا فايدة ولا عايدة.. هنفضل طول عمرنا شيلين الهم.. امتى بقى هنتنصف زى الناس .. تقولش هيفتحوا عكا”.

ترد عليها بدريّة:

ـ من امتى الحب ده كله.. آه .. فاكرة يا بت لما كانت تقعد تصحي فيه ليل ونهار.. “يا راجل قوم بقى.. أنت جاى تنام هنا.. نفسي أشوفك صاحي زي بقيت الرجالة.. على طول نايم”.

يضحكان في حرص، ولكنها كانت تسمع وهي تمصمص شفاهها وتزفر في حزن وهي تضع يدها على خدها قائلة:

ـ ما الحال من بعضه يا ولاد الهبلة.

قامت من على السرير ودموعها تغسل وجهها الذي احمر أكثر، فتحت الدولاب وأخذت ملابسه وأشياءه الخاصة في شوال ووضعتهم أمام باب الدار.

صفقت الباب في صوت مدوّ.

الكل اختفى.. كل واحدة منهن دخلت غرفتها وأغلقت بابها عليها، أدركن أن النكد سيحل ضيفاً ثقيلاً على البيت لا موعد لرحيله.

بينما وقفت وسط الدار ترمي نظراتها على الأشياء من حولها في يأس وعجز، مازالت أنفاسها تخرج سريعة قوية.. تزحف تحت أعتاب الأبواب، وتتسرّب من ثقوب الجدران.. تجثم على صدورهن في غرفهن تكتم أنفاسهن.

مرّرت نظراتها التائهة الهاربة على الجدران المتصدعة، والشروخ العميقة، وسقف البوص المثقوب.

راحت ترقب الأنفاس الحارة مختبئة في كل ركن.. أبخرتها تصنع موجة ضبابية تبهت صورة المكان.. ترسم عروق ندى رفيعة على الجدران، ولا هي تهطل ولا هي تجف.

كانت تفرح بلمّتهم أول يوم العيد.. الكل يضحك، الكل يسابق الآخر في حكىْ حكاية أو نادرة حدثت له أثناء عمله هناك، وفي الليل تقرقع في الدار أصوات النشوة الحامية المتبادلة تمر بين الجدران كشعلة نار في هشيم، الكل يتبارى ويعلن بدوره أنه الأفتى.. الأسعد.

كم كانت تسعد لهذا، وتستمد لذّتها من لذّتهم جميعاً مع زوجها الجديد صخر الذي يصغرها بخمسة عشر سنة، وفي صباح اليوم التالي يمتلىء البيت بصخب النساء، وضحكاتهن العالية بلا قيد تصبغ عيونهن بدمعات النشوة اللؤلؤية، ولكنها تلمح صفيّة صامتة.. تغلق وجهها وتختفي في عمل شاق من أعمال الدار، والنهار كله ينقضي في طابور الاستحمام الذي لا ينفض إلاّ في آخر يوم من أجازة العيد.

ـ إيه حكايتك ياسي صخر.. خلاص فرغت الحدوتة.. يا ابن الكلب ده فاضل كام سنة وتنخمد النار في جتتي.. واللهِ باين عليها ما هتنخمد وهتفضل ذلاّني طول عمري.. تدلدل لساني حتى على الحرام ..

من خمسة وتلاتين سنة وانشق في جسمي نهر شوق النسا.. خدت إيه؟ مرات معدودة.. أيام مسروقة، وأنا كل يوم وليلة بيلاطم موجه في جسمي ويصرخ زى الغول في سجنه، وادخل في صلا واخرج على وِرد، وأملى حنكي طول النهار بتسابيح ودعاوى ولا فيش فايدة.. كل ده ما بيهدوهوش ولا بيوغر ماءه..

آه .. بقيت زى العيّلة الصغيرة تخاف حد يلمسها ولا ييجي جنبها لينفلت عقالها، وما تقدرش تمسك نفسها قدام التيار الجارف..

يخرب بيت أبوك.. صحيح عيّشتني أيام ماعيشتهاش طول عمري ورويْت ظمئي.. خلاص ماعدتش عافيَّة اتغندر لك وعضعض لك في جسمك وادعكهولك بايديا ولساني..

لايف على مين؟

مين اللي خدتك مني؟.

كان صخر يجلس هناك على ضفة البحر يرقب المراكب في مرساها، وهي تتخبط في غيظ ربطة العقال على الشط، كان دوماً يفرح بعنفوان الموج المتلاطم. يخرسه في الحال.. يقف متأهباً يخلع الفانلة والسروال ويهبط سابحاً، الآن يجلس حزيناً منكسراًً يتأبط ساقيه بذراعيه المتشابكتين بشعره الطويل الهائج في سواده الفحمي ينظر للمراكب المتخبطة والبحر الغاضب في شرود وتيه.

من ليلة أمس لم يضع في فمه لقمة واحدة.. لمحت في عينيه العبوس وزفرة الضجر.. أحضرت له الماء الساخن وأحضرت الطست، خشت أن تجبره على الاستحمام معها داخل الغرفة، ولكنها فقط غسلت فروة رأسه السميكة ووجهه، ووضعت قدميه في المياه والملح وماء الورد، كان يريد أن يسرفها عن رغبتها منه، قال :

ـ لا حول ولا قوة إلآ بالله.

ـ مالك؟ .. بيك إيه؟.

أعطاها خشب وجهه وعينيه الذابحتين، ولم تقو شفتاه الغليظتان بنبس كلمة

ـ الله ما تقول يا واد بيك إيه؟.

ـ تعرفي البت هنية بنت جمعة العلاف؟.

ـ ايوة.

ـ من كام شهر كده لاحظوا عليها جماعة جوزها أمور كده.. استغفر الله.

لطمت صدرها على قميص نومها العاري الأكمام والصدر قائلة :

ـ دي ما كملتش سنة جواز.

في غضب وثورة قال :

ـ ما هو اللي يستاهل ضرب الجزمة.. ازاى يسيبها ويسافر بعد الجواز بأسبوعين ويطير على مصر.

كانت شروخ الصمت على وجهها تفغر فمها وهو يضيف :

ـ دِه عيّل بارد.. ما جاش البلد غير مرة ولا مرتين.

ـ البت صغار وجسمها فاير.

ـ بقالها تلت تيام ماحدش يعرف لها طريق جرّة.

ـ هيكون راحت فين؟.

ـ في ناس بتقول كانت متخفية بطرحة سودا وحاطة ايديها على بطنها ورايحة ناحية البحر بليل.

ـ وعرفوها؟.

ـ عرفوا ولا ما عرفوش.. ما هي هنيَّة في رجلها عرجة خفيفة.

ـ تكونشي.. !

ـ بس اكتمي.. ربنا يستر.

أثناء العشاء، كانت تلمحه شارداً يلوك نسيرة من ذكر البط.. حتى رفعته كله على الصينية في عجلة مأربها منه، في السرير حاولت نزع فانلته وكلسونه أعطاها ظهره، لكزته في عنف.. قال وهو يغطي رأسه بالمخدة :

ـ جتتي مش خالصة.. دمي هارب.

ـ وإحنا مالنا.

ـ يا ولية اهمدي الليام جاية.

ـ جاية ولا فايتة.. أنا مش عتقاك النهارده.

ـ هسيب لك نفسي واعملي اللي أنتي عايزاه.

خار قواها معه دون فائدة.. نفخت في وجهه ضيقاً، دفعت فخذيه بعيداً عن وجهها وهي تتمتم بالسب واللعنة بعد أن سمعت شخيره.

في الصباح أراد أن يفرّ بعيداً عنها لأيام، كأنه يستحلفها وهو يقول :

ـ أنا هبات كام يوم في الطاحونة.

ـ ليه بقى.. البراغيت بتقرصك هنا.

ـ يا ستي أنا تعبان وطهقان من نَفسي.

ـ أنت حكايتك إيه؟ ولا تكونشي حنيت لعوايدك؟.

ـ إيه لزومه الكلام ده.

ـ ما أنت طول النهار عايش وسط النسوان في الطاحونة.. شبعت؟.

ـ دول نسوان غلابة.

ـ وأنت اللي بتحن عليهم يا خويا.. فاكر فضيحتك مع راوية الفاجرة.. ولا البت عبلة.. فضايحك كلها عندي.

ـ ما عادش له لزوم الكلام ده.. سيبيني امشي.

ـ لو هتمشي سيب مفاتيح الطاحونة وشوف لك داهية تانية.

ـ هي حصلت لحد كده.

ـ مالي وأنا حرة فيه.. فضلتك عن ولادي المتغربين.

ـ كده .. طب ناوليني هدومي.

ـ مالكش عندي هدوم روح زى ما جيت.

ـ يعني أنتي بايعة خالص.. طب أنا هسيبك لحد بليل يمكن تراجعي نفسك.

ـ ما عادتش عايزاك ولا عايزة أشوف وشك.

ـ يستر أصلك.

ـ أصلي هو اللي عملك.

ـ اسألي نفسك بقى.

كبش بيده كمية من الحصو، ووقف يرمي واحدة بعد الأخرى.

مر على الديار.. لمح الضباب في عيون الصبح ينفث على المنازل الواطئة المتباعدة الباردة، شمس الضحى لم تقو عليه.

الصمت يخيّم.. الشوارع والحواري خالية.. النُعاس ركب على أجسام النساء ململها وخدرها فاستسلمت له، حتى العجائز من الرجال لم تخرج تجلس على المصاطب تفرد عظامها للدغات لسعات الشمس.

خاف من بصّات العيون أمام بيت جمعة من خلف الشراعات تتهمه، هو الغريب.. فرضته هي على أهل البلد، عندما دخل عليها في ليلة طلّ ممطرة بملابس خرقة مبللة.. الباب كان مفتوحاً.. ربما نسيت الرغبة إغلاقه، نبحت الكلاب خلفه في أسراب.. قفز بداخله وأغلقه في سرعة خلف ظهره، عندما رآها تتجسّد أمامه من خلف ضوء الشمعة خارجة من الزريبة.. مات في جلده، ابتسمت.. سترت جسمها بملاءة الكنبة في القاعة، ولمت شعرها المنكوش، مسحت بيدها قطرات العرق من على جبينها.. كل هذا طمأنه.. أراد أن يدافع، وضعت إصبعها على فمها تحثّه على السكوت.. هز رأسه، أشارت بيدها كي يتبعها وهي ترمي نظرات مرتابة سريعة على غرف النساء الثلاثة.

في الصباح قامت في خضة وهي عارية بجواره على السرير تلكزه.. استيقظ في كسل.. ألبسته ملابس قديمة للمرحوم، أخرجته من الدار في حرص بعد أن اتفقت معه على كل شيء، سترسل لأولادها الرجالة ثم يـأتي ليطلبها للزواج.

تزوّجها بضغط وإلحاح وتهديد منها لولديها، صار أمراً واقعاً على الجميع حتى نساء البيت اللاتي تحرجن منه أول الأمر.. كيف يدخل ويخرج عليهن رجل غريب؟ جلس معهن وأكل وشرب، ملأ الدار بحكاياته وضحكاته وضحكاتهن.. أنفاس رجل ماكث في الدار تتسرب تدخل القلوب تطمئنها.

النهار مسا والليل غول سواده حل في النفوس، تذكرت ملابس صخر وحجيّاته على باب الدار.. ظل رجل ولا ظل حائط بارد.. ولا ظل حمار، فزّت من على السرير وأخذت ملابسه وأعادتها حيث كانت في دولابها، وجلست على باب الدار تنتظره لتعنفه قليلاً ثم تسترضيه، لم تتركه أبداً للشابات الحسناوات يطرن عليه كالنحل.. هن يعرفن كيف يحافظن عليه ويخبئنه عن أعين الرجال الكبار والعجائز من النساء في كل دار، أو تتزوّجه أرملة شابة تعطيه أكثر مما تعطيه.

الفجر لاح.. تسللت تبحث عنه.

صوت العواء، ونقيق الضفادع العجائز، ونباح الكلاب يشجع الطنين بداخلها يعلو .. يزكم أذنيها ويخفي الأصوات من حولها، اتجهت نحو الطاحونة.. واجهها القفل الكبير يملأ صدر الباب.. تحسّسته في يأس، بالت دموعها عليه وهي ترتمي بوجهها تخبط في غيظ على صدر الباب.. لكمته بقبضتها.. عضته بأسنانها.. خارت، جلست في حسرة منكسة الرأس تسنده بيديها.

ـ الله أكبر.. الله أكبر .. أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله..

علا صوت الشيخ زين من الزاوية مبللاً هو الآخر بالبكاء.

في عناء جرجرت ساقيها، دبت الروح في البلد فجأة، سمعت العويل.. صراخ النساء يقطع كل شيء ويحسمه.

دار جمعة يتجمع حوله الرجال القلائل الذين أنهوا صلاتهم بسرعة، اتشحت البلد بزى النساء الأسود، تسللن في جماعات قليلة.. كلهن يبكين.. كلهن يطلقن صرخاتهن حرة جريئة تتضرّع في مولد صبح جديد للمولى عز وجل، حزنهن يشق الصدور .. لم يتحرجن أن تبدو نهودهن الجافة المضروبة بالحمرة والوهج عارية أمام الجميع، اندست بينهن.. أخرج الرجال الجثة بعد أن لفظتها الأمواج. تململ جسمها في الفراش ثلاثة أيام، همت كالجائع المسعور تعاود البحث عنه، في القاعة سمعت الهسهسة.. أنّات خجلة تتعمد كتم صراخها، لكن الغنج انفلت ذلّة.. أباح الآهة المقهورة أن تخرج غصبا، حددت مصدرها ولكنها لم تحدد صاحبة الصوت، تملّكها الرعب ولم تستطع أن تخطو خطوة واحدة ناحية الزريبة.. فرَّت على غرفتها كأنها الفاعلة.

ـ مين ؟ سنيّة مرات إسماعيل الكبير ؟ ولاّ بدريّة مرات توفيق الأصغر ؟  ولاّ تكونشي صفيّة بنت البنوت ؟.

سنيّة قارحة.. لما كان بييجي الواد إسماعيل كانت تبقى مش عايزة تخرج من اوضتها ولا عايزة تخرّجه، وفي الليل صوتها يلم علينا الكلاب.. دايماً ألفاظها خارجة وضحكتها عالية.. يحلى لها تقعد وترفع جلبيّتها لنص وراكها.. يمكن بدريّة الخبيثة اللي بتغطس كل شوية باليومين والتلاتة في دار أبوها، وتيجي وشّها مورّد وعينيها مفنجلة.. أصل الواد توفيق طالع لأبوه ممصوص ولا بيهش ولا بينش.. أحيه ليكون بت البنوت ضجرت.. صفيّة سخنة فيها شقاوة مكتومة بلؤم.. بس لأ .. لأ حرام.. البت عارفة إن لازم تمسك نفسها عشان ليلة دخلتها.. تبقى فضيحة فيها موتها.. لأ .. لأ دي شقاوة بنات صغار.. الخوف حاكمها.. كلها حاجات صغار تهدي شهوتها. في الصباح مرّرت نظاراتها بين الثلاث.

على مدار ثلاث ليالٍ استطاعت أن تحدد ثلاث آهات مختلفة ولم تستطع أن تقترب من باب الزريبة. على دموع منهمرة لم تتحكم فيها أخذت ليلتها الرابعة، ولم تغلق باب الدار

About The Author

Contact