×

تانغو الحزن النبيل… تلمّس الإشارات الفلسفية في نص (تانغو) للأديبة سعاد العتابي بقلم الناقد منذر الغزالي

تانغو الحزن النبيل… تلمّس الإشارات الفلسفية في نص (تانغو) للأديبة سعاد العتابي بقلم الناقد منذر الغزالي

تانغو الحزن النبيل

تلمّس الإشارات الفلسفية في نص (تانغو) للأديبة سعاد العتابي

الأديبة سعاد العتابي

النص

تانغو

قاربٌ متأرجحٌ.. أنا.
بين موجات صاخبات ضاحكات
.. تتقاذفني بالقبل تلو القبل، رسائلُ حبلى بحزنِ عاشقٍ، التقطنها من أعماقِ البّحر.
تهادَى مجذافي واستقامَ
.
احتضنَها
.. ورقصْنا….

القراءة، تانغو الحزن النبيل

تفكيك النص وتحليل الدلالات

تانغو… قصة قصيرة جداً، كتبت بلغة شاعرة، مبنيّة على انزياحاتٍ لغويّةٍ تخفي في مضمونها رؤيةً فلسفيةً للإنسان، والوجود، والحزن كمحرّض إنساني في رؤية مغايرة للحياة بعمقها الفلسفيّ والصوفيّ.

وكَيلا يكون الكلام مُطلقاً، أو طيفاً بلا ملامحَ، سأبدأ بتفكيك النصّ، وتحليل تراكيبه، وتحرّي رؤيته، رؤية الكاتبة، وتلمّس مقاصده.

لكن قبل ذلك كلّه، أرى أنّه من المفيد -في هذا النصّ- أن نضحّي مؤقتاً بشعريّته، لغرض القراءة فقط، ونعيد كتابته سرداً تقليديّاً، من خلال إعادة ترتيب التراكيب، متتبّعين صياغة النصّ الأولى، دون أن نغفل أيّ مفردة.

أنا قاربٌ متأرجحٌ بين موجاتٍ صاخباتٍ ضاحكاتٍ… رسائلُ حبلى بحزن عاشقٍ، التقطت من أعماق البحر قبلاً تلو القبل، تتقاذفني بها.

تهادى مجذافي واستقام.

احتضنَها.. ورقصْنا.

هكذا تبدّت الحكاية بزمنها الخطّيّ، ماضٍ ثمّ حاضرٌ فمستقبل، وبحبكتها التقليدية، مدخل “أنا قاربٌ متأرجحٌ بين موجاتٍ صاخباتٍ ضاحكات”، وعقدةٌ تتصاعد إلى الذروة “رسائل حبلى بحزنِ عاشقٍ…”، تنحدر نحو الحلّ “تهادى مجدافي واستقام“، ومن ثمّ خاتمةٌ وحلّ العقدة: “احتضنها ورقصنا”.

هذه الحكاية يرويها راوٍ متكلّمٌ وصَفَ حالته بالقارب المتأرجح، وجعل كلَّ مفردات النصّ مبنيّةً على هذه الصورة أو المرآة؛ البحر وما يحمله من دلالاتٍ ومعانٍ مباشِرةٍ: (الامتداد، والموج الصاخب على سطحه، والعمق الساكن الغامض، والقارب وما يعتريه من استسلامٍ لحركة الموج، والمتعة، والمغامرة، والخطر…)، وكذلك دلالاتٌ تأويليّةٌ هي التي تعنينا وسنأخذها في التحليل.

منذ البدء افتتح الراوي حكايته بالحديث عن ذاته “قارب متأرجح أنا…”، وذات الإنسان لا تكون إلا في الحياة… فالبحر هو الحياة. باختصار؛ حياتنا بحرٌ تتقاذفنا أمواجُه، تداعبُ حواسَّنا، تحملنا على موجة النشوة كيف تشاء؛ ما دمنا على السطح، ننظر إلى متعها وحسيتها المادّيّة.

غير أنّ حدثاً ما، حزناً ما ينبثق فجأةً في أعماقنا، يولّده حدثٌ، كبيرٌ أو صغير، فنتوقّف لحظةً، نتأمّل، نعيد النظر، نجد أنّنا كنّا على القشرة فقط، وتحت هذه القشرة من الصخب والمرح واللهو، هناك كنزٌ كبيرٌ تخفيه الأعماق، نكتشف كنزَ ذاتِنا، وتنقلب ذاتُنا، تنقلب متعتُنا، ونجد المتعةَ الكبرى في ذلك التأمّلِ الهادئ، في الثمينِ من الأشياء، في جوهر الأشياء، في جوهر ذاتنا؛ تصبح الأعماق متعتَنا، نعانق حزنَنا، أو يعانقنا، نسكن تلك الاعماقَ، ونستكين… تصبح قيمة حياتنا في سكون روحنا، ويصبح حزننا هو سبب سعادتنا.

الإنسان كائنٌ حزبن!

الذئب بجرحه ذئبٌ، أو مفترسٌ آخر، فيلعق جرحه ويمضي؛ لكنّ الإنسان قد تجرحه كلمةٌ، فيظلّ في حزنٍ طويل، يفكّر في جرحه… لأنّه إنسان!

الحزن يسكن في النفيس فينا، الحزن يسكن مع الراهب في صومعته، مع الصوفيّ في غربته، مع الفيلسوف في عزلته، مع الشاعر في قصيدته.

نحن بحاجٍة إلى الحزن، كي يوقظ فينا إنسانيتَنا. والإنسانُ إذا لم يعرفِ الحزنُ طريقاً إلى قلبه لن يدرك معنى الحياة.

لا معنى للفرح المطلق، لا وجود لفرحٍ مطلق.

الحزن شعورٌ نبيلٌ، يدخل النفس فيطهّرها.

والحزن إذا ترافق مع الشكوى، فقد جلاله.

الحزنقدر الحكماء*

تحليل النص أسلوبياً

نص (تانغو)، إذاً، هو قصٌّةٌ قصيرةٌ جداً، موضوعه عالي القيمة، فيه شيءٌ من الفلسفة، وأطيافٌ صوفيّةٌ، وملامحُ قُدْسيّةٌ.

يكفي كاتباً أن يكتب بهذه الرؤى، والروح الفلسفيّة، أو الإشراقيّة الصوفيّة، ليرفعَه نصُّه إلى مقاماتٍ عُلا.

لكنَّ النصَّ ببنائه، أيضاً، فيه إبداعٌ كبير، ابتكار…

إذا كان عنوان النص (تانغو) فإنّ بناء النصّ، أسلوبياً، هو تانغو أيضاً.

التانغو رقصةٌ تقوم على ثنائيٍّ: امرأةٌ ورجلٌ، والنصّ كلّه قائمٌ على ثنائيّاتٍ:

أمواج / أعماق… تانغو

ضاحكة / حزن…. تانغو

صاخبة / سَكَنَ….. تانغو

قاربٌ متأرجحٌ / قاربٌ متهادٍ… تانغو

التانغو هو رقصة المهاجرين الغرباء في بيونس آيرس في اواسط القرن التاسعَ عَشَر، ملجؤهم من وحدتهم الوجوديّة؛ بالتانغو يلجأ الراقص إلى حضنٍ يحتويه… هو البحث عن الذات من خلال الآخر.

والتانغو هو رقصة الأحزان كما تقول الأستاذة في جامعة باريس (كارمن برنان[i]): “موسيقا التانغو هي رقص الأفكار الحزينة، هي أشبه بأحزانٍ راقصة[ii]“.

يبدأ التانغو بأن يقدّم الرجل يده لشريكته، تستقبل بيدها يدَه، فيحتضنَها بالأخرى ويندمجان في حميميّةٍ.

وفي النصّ، بعد أن تهادى القارب/البطل واستقام المجذاف، قفلت الكاتبة نصّها على موسيقا تانغو…  احتضن الراوي أحزانه، ورقصا…

لتظلّ القفلة مفتوحةً على تانغو لا ينتهي، يرقصه الإنسان مع أحزانه.

بون 24/12/2018



About The Author

Contact