×

تجليات صورة المرأة في ديوان (لي في العراق حبيبة) للشاعر العراقي المغترب: د. مديح الصادق/ كندا

تجليات صورة المرأة في ديوان (لي في العراق حبيبة) للشاعر العراقي المغترب: د. مديح الصادق/ كندا

تجليات صورة المرأة في ديوان (لي في العراق حبيبة)

للشاعر العراقي المغترب: د. مديح الصادق

د. مديح الصادق

مقدمة

حظي الشعر بمكانة كبيرة في الثقافة العربية، وللمرأة في الشعر مكانة بارزة؛ فإذا كان الشاعر العربي يبدأ قصيدته بالوقوف على الأطلال، فإنه ينتقل بعد مقدمته الطللية إلى الحبية، يتغزّل بها، أو يصفها، أو يصف مغامراته معها. 

وظلّ للمرأة – الحبيبة المكانة البارزة ذاتها مع تطوّر القصيدة العربية، وأخذت الحبيبة دلالاتٍ أوسع من دلالتها التقليدية التي تنحصر في إبراز ذكورة الشاعر، أو أنوثة الحبيبة.

ولعلّ أبرز الدلالات التي ارتبطت بالحبيبة في الشعر الحديث هي دلالة الوطن، كأنّ الحبية هي وجهٌ آخر للوطن.

في المجموعة الشعرية التي نتناولها اليوم للشاعر العراقي المغترب الدكتور مديح الصادق كانت العتبة الرئيسية، عنوان المجموعة هو عنوان إحدى أجمل قصائدها (لي في العراق حبيبة) في حضور بارز لارتباط الوطن بالحبيبة في وجدان الشاعر، وفي قصائد المجموعة، سواء كان هذا الحضور حضوراً ظاهراً بارزا، أم حضوراً بشكل نسقٍ دلاليٍ مضمر تحت لأنساق أخرى، يحتاج من القارئ بعض التفكيك ليبرز ذلك المنسق المستتر الذي يعطي الإشارة الباطنية لرؤية الشاعر في الحبيبة وفي الوطن، سواء بسواء.

وهذه القراءة تحاول الكشف عن بعض تجليات حضور المرأة في المجموعة القصصية.

المرأة الحبيبة، الجسد

لجمال المرأة، وصورة الجسد مكانة في القصيدة العربية التقليدية، ووصف جسد المرأة هو أحد الممكنات الجمالية في القصيدة العربية.

العشيقة من لحم ودم، وبما تملكه الأنثى من عناصر فتنة وأنوثة؛ وهي على العموم أقرب إلى النسيب منه إلى الغزل، فيكشف لشاعر في قصائده بعض صفات الحبيبة الأخلاقية، وبعض محاسنها الجمالية.

ففي قصيدة (صلاة في حضرة الحبيبة) يصف حبه للحبيبة، مستعيراً بعض أوصافها الجسدية

 “حبّي لك من أنفا سك أعذبُ

مثلُ اللون الوردي في خدَّيك

بأول لُقيا

مثلُ بها ء الشفتين

الأحمر”

وقد يصل النسيب إلى التشبب بالحبيبة، فيصف بعض حالات الوصال، ولو بشكل حلمي أو وهم. يقول في قصيدة (لي في العراق حبيبة):

“في صُحوتي عيناي ترنو لها

وفي حلمي

أشاطرُها السرير حتَّى

تفضح الشمسُ أسرا رنا

أُداعبُ الشعر، تلك لُعبتي

أرشفُ الشهد عذباً

و من مبس مها الدُرَّ”

صورة المرأة القدسية

يفتتح الشاعر د. مديح الصادق ديوانه بقصيدة (صلاةٌ في معبد الحبيبة)، ولعلّ لهذا الافتتاح دلالته التي لا تحتاج تفسيرا، فالمرأة في ضمير الشاعر، وخياله، وتكوينه الثقافي جوهر قدسي، فيه حالة طهريّة رغم حضور الحالة البشرية، والتوصيف الجسدي للحبيبة وطقوس الحب؛ غير أنه في الحالة العامة، كل ذلك تفاصيل صغيرة من الصورة الأشمل، صورة الطهارة التي تصل حدّ القداسة. فما الصلاة إلا لمقدّس، وما طقس الصلاة إلا حالة طهارة تامة:

“أحببتُك فوق الحبّ

و أبهي مما عرف الناسُ

و أكبر

قدر عد د نجوم الكون

وذرَّا ت الرمل

و أكثر

أنقى من حبّ ملاك لملاك

……..

حبي لك فوق الفوق

وما هو بالعادي”

بل تتمظهر قدسية الحب، وبالتالي صورة الحبيبة في تناصّاتٍ لها أبعاد دينية، مثل

 “أقسم بالتين والزيتون

وعينيك

بضفائر أمي أقسم

وخبز التنور الأسمر

وفي قصيدة  (الحب عبودية) يقول:

وليشهد كل الأسلاف من الماضين

أنك لست بأنثى

ما مثل الناس، ولا ببشر أنت

ما من ماء أو طين

ما مثل الخلق، فحسنك لا يوصف إلا

في التوراة أو الكنز أو الإنجيل

وإما في صحف الأولين”

المرأة الأسطورة

الشاعر ابن الرافدين، موطن الحضارات، ومنشأ الأساطير الأولى، عشتار، وما تبعها من أساطير تنسج على منوالها، فلا غرابة أن تتجلى حبيبة الشاعر بالإلهة عشتار، بما تحمله رمزيّتها من خصب وأنوثة وعشق:

“من غيرك ما فاض فرات

ولا رويت بابل

لا زرع قام

ولا أثمر”

ومن التجليات الأسطورية للمرأة في الديوان صورة المرأة السيدة/ الإلهة

يقول في قصيدة عنوانها (الحب عبودية):

“الروح ملكك وأنا عبدك

ماذا تأمرين؟

أعبّد الأرض باللؤلؤ، بالديباج

وكلِّ ثمين

على ريش نعام

أو أفرش روحي

أبسط قلبي

تنامين وتحلمين”

 الحبيبة – الوطن،

الديوان كله امتزاج بين المرأة بكل تجليات حضورها، وبين الوطن, فالوطن في قلب الشاعر حب كأنه الحببة، والحبيبة في وجدانه هي الوطن، هي الملاذ، ذاكرة المكان وحارسة السنين:

“نخلة داري أنت

وأنت الدار والأهل”

 صورة الجسد – صورة التاريخ، حارسة المكان والحضارات

“ليست ككل النساء حبيبتي

وما هو كسحر الباقيات جمالها

بابلَ في عينيها أرى

وفي القامة سومر لاح لي

ملوكُها

ذوائب الشعر تحكي لنا

آشور، وما حكت

لشهريار من قصص، شهرزاد

وأخبارها العجيبة

الحبية الوطن، ذاكرة الجرح

شبّه الشاعر عذاب حبّه وقسوة حبيبته بالصدود، بعذاب الوطن لأبنائه المخلصين، فالحبّ في الحالتين صادق، والعذاب في الحالتين جارح، والمقصود بالوطن ليس التراب والحضارة والأبناء الطيبين، أبدا، فالشاعر يشير إلى مغتصبي الوطن، مدّعي الوصاية عليه.

وكيف لا يكون عذاب الشاعر من قسوة حبيبته كعذابه من قسوة الوطن؟ فكلاهما: الوطن والحبيبة أثمن وأغلى ، وكلاهما: الوطن والحبيبة، عذّباه لأنه أحبهما كلّ هذا الحب:

“أنى وليت وجهي

فثمّ وجهان بلا ثالث

حبيبتي التي سرقت نومي

وفي محجريها

مكر كل النساء

شاحبا مثلما الموت

في مقلتيهما نائما كان

وجه الوطن

مرسومٌ على الجبين

حدّث السيف

قطّع الأوصال

وانتهك المحارم

واسترخص الدماء

وأغرق البلاد طولا وعرضا

بالمحن”

ويغرق الشاعر في ذكريات الحزن يفيض طوفان الذكريات البائسة، ذكريات الألم والظلم، فتتحول الحبيبة القاسية التي كان يشكو صدودها إلى ملجأ آمن يرتشف منه الصير على الذكريات.

في قصيدة حبيبتي ووجهُ الوطن:

“أيا وجه الحبيبة، مفعما بالنور

اسقني صبر اً، سأشتريه

ألا ليت لي صبرا كصبرك

يا جمل

وهل للحرّ من صبر

والسبايا كما الخراف تقاد

وبين سقط المتاع يبعن

ويشترن؟

غاباتُ جفنيها، حبيبتي، غرقى

جحافلُ الرجال كلمى

على النع ش مواكبُ قد حمّلت

والموت لا تشتهيي، حبيبتي

منهما الحياةُ، ومنهما

تُسق السُنن”

الحبيبة – الأم

حضرت الأم في أكثر من موضع في الديوان، لكن الشاعر أفرد لها قصيدة خاصة بعنوان باقة ورد لأمي

نقرأ منها:

“ما أجمل، ما أعذب

صوتك يا أم

يا نبع المحبة

يطفئ ظمئي

ومن دمك الصافي: خلق الدم

كفّاك تطعم، تكسي

بل تداوي

علّتي

عيناك أقمار

تضيء الظُلَم

أنهار هذي الأرض

من نبع أمي، تجري

منها الخير، ومنها الطيب

منها تُرضَع الذمم”

الحبيبة والصورة الصورة الميتافيزيقية:

الشريكة في رحلة الحياة، ومشوار الفراق واللقاء، والانتظار، وأمل العودة… زوجةً، أو أوختاً، أو بنتاً.

بل تأخذ بعداً ميتافيزيقياً، وتصبح الصورة هلاميّةً، شفافةً، صورةً غيبية، بألفاظٍ لها جذورٌ مادية واقعية، غير أنها تأخذ دلالات غيبية، فلا الانتظار يظل الانتظار الذي نعيشه، ولا الغائبون هم الأحبة في الغربة، ولا البيت ولا الزهور… إنها أبعاد فوقية، علوية، فيها الغياب الأزلي، وفيها انتظار البعث المحتوم، وفيها ترتيب النفس وتأثيث الضمير، وزرع الزهور في السرائر لتبقى عطرة إلى يوم لقباء لا بد آت:

“لا تقفلي الباب بالمزلاج

ولندع خاشعين

أن يعودوا

آخر الليل

حضّري ما يشتهون من الطعام

وكفكفي الدموع

قد يفزعون من سيل الدموع

رتّبي الصالة

مثلما أرادوا لها

قبل الرحيل

واسقي الزهور التي غرسوا

وادعي من ربّ الزهور

أن لا تموت الزهور

وأنْ لأعشاشها تعود الطيور”

الحبيبة وصورة الذكر والأنثى

صورة المرأة العشيقة، في مخيالنا الجمعي، امتزجت بصورة العاشق الرجل، الذكر، وثنائية الذكر وانث، وذلك الصراع الأزلي بين سطوة الذكورة، وخضوع الأنوثة, بين خشونة الذكر، ومكر الأنثى. فالشاعر في قصيدته قصة مجنونين يرسم هذه الصورة بطريقة جميلة، عذبة. يقول واصفا أقاويل الناس وأوهامهم:

“نسجوا روايات

وأشاعوا

أنكِ مغرمةٌ

غارقةٌ حتى أذنيك

بحبي

قلبك مجنون

يبحث عن مجهولٍ

عني… في الطرقات

ويقضّي الليل قبالة نافذتي

شعرا ينشدني

ويسامرني”

لكنّ الحقيقة أنّ حلم الحب يبدو منعكساً في انعكاس الصورة؛ يشدّه حبه لها، ويحلم أن تكون هي بدلاً عنه، تنشده الشعر الذي ينشدها، وتحقق أحلامه التي يحلمها:

أنذر عمري لك

يا… غدي الآتي

وأشاعوا

لخيالك يرقد جنبي

في نومي

ويحاورني

يهمس في أذني

أحلى الهمسات

أقوال… وإشاعات

وأنا لصٌّ

مذعوراً… أتسلل

سوراً.. أتسلّق

أتحدّى الناطور

وليل جحيمٍ

إياك… أبات”

الحبيبة، وصورة المجتمع الذكوريّ المتزمّت

في قصيدته  (محكمة القرية المتحضّرة جداً… جداً) يرسم صورة متهكّمة للظلم الاجتماعي الذي يلحق بالمحبين، وعلى وجه الخصوص على المرأة العاشقة، التي يخشى من تمرّدها على قيوده الصارمة، من خلال قصيدة قصصية جميلة:

“ممنوعٌ أن يجتمعا

ممنوع أن يبتسما

محذور حتى الهمس

فطهرٌ للطهر

في القرية ممنوع أن ةينبض قلب

في حب الثاني

علناً ذلك، أم في السر

في القرية أن تكفر سهل

أن تكذب أيسر

والأهون أن تسرق

تبقى المعصية الكبرى

أنْ للحب تغني

ناموس القرية

لا يُسمح أن يُخرق.

قلم الشاعر يكسر

ودواوين الحب تصادر

شمع أحمر يختم ثغره

خشية أن ينبض حبا

جهاز مراقبة يرقب صوته

خطر جدا

هذا الشاعر”

ويبقى في الديوان الكثير الكثير من حضور المرأة وتجلياتها ومقاماتها.

والشاعر كما قال أحد الأصدقاء يوماً تتوهّج قصائده بالجمال حين يكون عاشقاً؛ وهو عشقٌ إنسانيٌّ، شموليٌّ كونيٌ. منذر فالح الغزالي

About The Author

Contact