×

تفسير الشعور، وترجمة الأفكار لدى الأديب في النص الأدبي: تطبيق نص: (القادمة من بعيد) للأديبة: رجاء البقالي بقلم الناقد: مختار أمين

تفسير الشعور، وترجمة الأفكار لدى الأديب في النص الأدبي: تطبيق نص: (القادمة من بعيد) للأديبة: رجاء البقالي بقلم الناقد: مختار أمين

تفسير الشعور، وترجمة الأفكار لدى الأديب في النص الأدبي: تطبيق نص: (القادمة من بعيد) للأديبة: رجاء البقالي بقلم الناقد: مختار أمين

 
(النص)
 القادمة من بعـيد 
 على الربوة تجلس، تشمخ ببصرها إلى القمم الشاحبة تولد من رحم السماء، يلفها الصبح بإشراقة تنسحب على السفح والوادي، تلامس شجيرات الدفلى المتراصة على جانبيه، كأنها الحارس الأمين لنهر الخلود..
 هو ذا الليل ينسحب برفق، يسلم الكون لإطلالة نهار، أخذ يحبو، يشع ندى ماسيا لا يستثني حصية ولا وريقة، والبلابل فرحة تشدو تباشير الولادة..ِ
أية قوة حملتها إلى هذه القرية المنغرسة في جوف السماء؟
 كيف لم تتذكر قبل ليلة أمس أن لها عمة لم ترض بغير الجبل سكنا، لم تغرها المدينة المنبطحة على السهل بترك الجبل وقساوته، وعاشت سنينها تهش على معيزاتها، تسابقها إلى الأخضر في الأعالي؟
 هي تعلم أن عمتها مدفونة هنا أو هناك، لكنها تسمع وقع نعليها على السفح الحجري، تحس عصاها تراقص القطيع، تشم ذات عطر البراري الذي كان نفسها، وتشرف على هذا النهر الذي كان مغتسلها..
 ها هو الصبح يزحف، يكشف عن الدور الطينية المكسوة بياضا، كأنها حبات لؤلؤ تسللت من ظلمة الليل وسط أطواق من الكروم الشوكية بلون المرجان القاني..
 بعد قليل، ستتبع القطعان رعاتها، سبنساب الصغار مع النهر يتراشقون بالحصيات والقطرات، ستشق النسوة غابة الصفصاف بالنعال والزغاريد، بحثا عن الحطب الشيح والزعتر..
 
 من عمق حقيبة يدها المسجاة عند قدميها، انبعثت رنة عليلة لهاتفها المحمول، كان يهتز كما الجان بين أشياء لم تفطن قبل الآن لعجزها. 
أتفعلها وترمي بكل الأرقام، تقتفي أثر عمتها وتشمخ إلى الأخضر في الأعالي؟
قطعا عمتها لم تمتلك حقيبة تعج بالأرقام..
 كانت تكفيها نظرة آتية من عمق الغاب لتتنبه إلى تعثر معيزة صدّها شوك أو حجر عن ملاحقة القطيع.. كانت مجرد صيحة من أعلى الجبل قادرة على إنذار القرية بقدوم غريب، فتنبح الكلاب، تنتفض القطعان، يجري اللعاب في أفواه الصغار وتنتصب النسوة خلف الكروم كالأعلام..
 هل يعاود المحمول الرقص على نغمات الجان؟ لو أن به وعياً لألقى بنفسه في هذا النهر .. قطرة ماء تطفئ جذوة ذاكرته الحبلى بالأرقام..
 أما هي، تحييها الحُصيات تتلألأ تحت صفحة الماء وقد سلّمت أمرها وعددها إلى علم الله الذي لا ينضب..
 وتلك الشجيرات على جانبي النهر، وشقائق النعمان بلون الشفق، هل تحمل أرقاما؟ وهذه الطيور تملأ الكون بشدوها الصباحي المرح، ما ترتيبها بين الكائنات
والطيور؟ وهذه الخفساء تكاد تحبو على كومة التراب؟
وخط النمل يسعى متراصاً ولا يخطئ الطريق؟
والفراش يتراقص نشواناً بحياة يحملها فوق جناحيه نعشاً ويطير…؟
وهي كنبتة، انبثقت من أعلى الربوة منذ الخيوط الأولى للفجر، أودعتها حافلة النقل إلى مفترق الطرق، وسلكت المنعرجات إلى الدور المتوارية في قلب الكروم الشوكية وأشجار التين.. 
أدارت ظهرها للقرية، وقرفصت تتابع النهر في سيره الأزلي.. 
وكمن مسها إنس أو جن، نكشت حقيبة يدها، رمت بكل البطاقات والأرقام صوب النهر..
صاحت:
 هي ذي أنا بلا إسم ولا رقم، أعانق السماء.. سأهش على معيزات الجبل، سأقضي الأمسيات على هذه الربوة، أشرف على هذا النهر.. سيعييني الركض و راء القطيع فأستريح أروي ظمئي بمائه البلوري البارد..
 أخرجت حبة تمر يتيمة من جيب معطفها، سرت حلاوتها في فمها مسرى النور في ظلمات تتأهب للرحيل..
 ترنحت إلى جنب النهر.. تهاوت عند جذع شجرة عجوز نسجت من جذورها الطافية على السطح متكأ للزائرين..
أخذها الدفء.. راحت ..
– من أنتِ يا هذه؟ من أين قدمتِ؟ كيف لم تنبح الكلاب؟
ما اسمك ؟ أين بطاقة هويتك؟
 – اسألوا هذا النهر، هو يعرفني، كل بطاقاتي هوت إلى قعره، أو ربما تطفو على سطحه، تجري حيث يعييها الجري
فتتوقف..
أين المنبع وأين المصب؟
 أيقنت أنها في أول الطريق، نور في حاجة إلى الظلمة حتى ينير، نهار ينبثق من ليل، وليل ينسج من نهار، سفر وعودة، فهل جاءت القرية مسافرة أم عائدة؟
 
خلف الجمع، سرحت امرأة رمت بحِملها على عصا هرمة:
 سبحان الله، كأنها رحمة، هنا كانت من سنين تقضي أمسياتها إلى أن يحين المغيب، تستند إلى جذع هذه الشجرة وقد كان بعد فتيا، تشرف على النهر، تتدفق بتدفقه، تشع بصفائه، فتصدح بأهازيج المساء تلملم معيزاتها..
وفي ذات مغيب، عادت المعيزات وحيدة إلى الحظائر….
 
(القراءة النقدية)
 
ذات يوم خرجنا جميعنا ولم نعد.. 
مازلنا تائهين.. 
 مازلنا نتسمع صدى أصواتنا الخصبة الفتية عبر شهب ذاكرة المغيب.. تطن بارقة في مخيلتنا المتخمة بهدى الخديعة، وآمال الضياع..
 ذات يوم كان آدم، يحمل في جعبات مخيلة ذاكرته المتخمة كل المعارف والأسماء، أراد أن يخلد إلى الراحة من عناء، فطّور وخرج، فتُهنا جميعا..
هذه هي قصة اليوم.. 
موضوعها البحث عن الذات الخصبة الأصيلة، عن بؤرة النور فينا..
 بعد أن أخذنا الشطط والجنون والانبهار الأعمى، فأنسانا أنفسنا، خلعنا جذورنا متوهمين أننا سنسبح في الأفق.. نجاور النجوم؛ فضجت بنا الحياة، وضج بنا الصندوق الفاعل الذي يحمل أرواحنا الجافة، وعلا صراخنا نبحث عن الخلاص، والخلاص هو الملجأ، هو العثور عن أصل جذورنا، والبحث عن فطرتنا الأولى التي كانت تحمل لنا في جعبة مخيلة ذاكرتها المعرفية أرواحنا النقية..
تكلمت قبلا عن مختصر لفن صناعة الرواية، وتطرقت للموضوع، وتحدثت عن كيفية انتقاء الموضوع من خلال فكرة، وهدف الفكرة، واليوم انتقينا قصة قصيرة للتطبيق، لكاتبة لها قلم مداده المباشر من عند الله، على وعي فطرة الأنبياء الذين لا يتكلمون من أنفسهم، ولكن يوحى إليهم..
إني أومن أني لا أغالي في هذا التشبيه وأنا أقرأ لكاتب مبدع موهوب مثل رجاء بقالي، وغيرها ممن أثارتني نصوصهم، وشجعتني أن أكمل مسيرة درسي المهموم به..
أول البحث، عن شعور ملأ الكاتب واحتل كل حواسه، ثم قرع في فكره؛ فأخذ يترجم هذا الشعور ويبلوره إلى فكرة بعد استخلاصه، تماما كما بدأت افتتاحيتي في هذه القراءة، فتجدني بدأت بنقل شعور، وأفكار كلها تدور حول فكرة النص..
وأنت ككاتب عليك أن تسأل نفسك سؤالا مهما، ألا وهو: لو كانت تختلجني مشاعر ـ كتلك التي حددتها أنا في أول هذه القراءة ـ ملأت نفسي، وعبأت رأسي هذه الأفكار، كيف أستطيع التعبير عنها في موضوع من خلال قصة؟
وأنا تعمدت أن أنقل مشاعري، وأطرح فكري عنها مجردة في بداية كتابتي دون تمهيد أو تنويه، علّني أفلح في أن أسطو على مشاعركم، وأستحوذ على ألبابكم ساقطا فيها أحاسيس ومعاني هذه السطور الأولى لتعتمل في مخيلتكم، وعلّكم تربطون بين هذه السطور والنص المكتوب عاليا، ونرى كيف صاغت الكاتبة هذه المشاعر والأفكار في موضوع قصصي جاذب مثير استحوذ على مشاعرنا وأخذ ألبابنا..
إن هذا للب الاحترافية، إذ أن الاحترافية هي عملية تحويل المشاعر التي تعتمل في النفس، تستجلب الأفكار وتخلق الموضوع الذي تستطيع تحويله إلى جنس أدبي في مهارة واقتدار..
فنجد الكاتبة خلقت إسقاطا لنفسها باقتدار احترافي، واستطاعت أن تترجم لنا مشاعر الإنسان الحديث، وتخبطه وتوهانه وسط الحياة المدنية التي تعج بالخطوب والأحداث المثيرة التي تتنافى مع تكويننا الفطري الأصيل، بل نتعامل معها بنفس آليتها مجبورين على ذلك، وتكرار الإجبار السلوكي والفكري يخلق انفصاما عن ذواتنا، ويحدث مسخ لهويتنا، ويغربنا عن بصمة شخصيتنا، حتى نصبح تائهين مشوشين نفتقد بوصلة الهدى، حينها نصرخ بالمطالبة بالعودة.. العودة لخليتنا الأولى، والبيئة الأولى، حيث نمو بصمتنا لدى المخ، كي يستطيع ترجمة هذه البصمة من خلال مشاعر وسلوك، ينتج ذات لسمات شخصية محددة الهوية تستعيد قاموس معارفها الأولى، تستعيد هداها وسكنها..
ترجمت ما شعرت وما دار في موضوع قصصي لبطلة قادمة من المدينة إلى قرية بدوية لزيارة المنشأ، حيث عمتها التي أمضت طول عمرها تستثمر فطرتها وتستحلبها من خلال بيئتها التي نشأت فيها، ولم تفكر يوما أن تهبط من الجبل إلي السهل، إلى المدينة..
 
كيف صاغت الكاتبة الموضوع على مستوى التكنيك؟
 
1ـ أسقطت كل التغريب والتشويه والإنفصام الذي يعانيه الإنسان الحديث واختزلته في راوية تنقل لنا، وتجسد نفسها في قلب الحدث المدار.. بقصد المثل، أي أنها هي المثل.
 
2ـ قامت بوصف المنشأ ـ قرية البدو ـ ببساطة وجمالية وشاعرية مبهرة، لتستصرخ في المتلقي تعطشه لهذه الحياة وهذه الطبيعة الفطرية الجميلة، كما أنها قامت بدور معاكس بالنسبة لمكان الهجرة ـ المدينة ـ بطريقة الإنكار، والإنكار هنا عدم الحديث عن متاعبها أو شقاء الراوية فيها، أو أدنى مقارنة، وأسلوب الإنكار التي قامت به مرتكز بلاغي على مستويين:
أ ـ الإنكار المتعمد للهروب من الألم وعدم تذكر تفاصيله، لتصوير النفس الموجوعة لحظة الهروب، والانفلات من الألم، أو لحظة الخدر كي تستطيع أن تستنشق من جديد نفخة إعادة الروح بذلك النسيم المحبب.. العبق التي تستشعره قديما من بلد المنشأ، وبالإنكار أفاد التأكيد على الهوية الأصيلة، وإنكار للمدينة الحدثية بكل ما فيها.
 
ب ـ الإنكار دل على الاختيار والتفضيل للنفس من قبل الراوية، بأنها تروي لمتلقي يعاني مثلها كابش نفس النار في حياته في الحداثة المدنية، على مستويات حياتية مختلفة، تعيشها صنوف كثيرة من الناس بأشكال كثيرة، أي أنه يعايش نفس الأحاسيس والألم، فقامت باختزال الواقع للحياة المدنية وصفيا، وقامت بوصف المرجو والعلاج للنفس المنكوبة والروح المسحوبة بوصفها لما تهفو نفسها إليه، وما سعت للذهاب إليه واختياره. وهنا أفاد الإنكار فتح المجال النفسي والفكري لدى المتلقي لتقبل النتيجة التي تود الراوية الوصول إليها، وصوغته دعوة للجميع أن يتجهوا بأنفسهم نفس الإتجاه، أو أوقفوا الدمار الذي يحدث لكم من تشويه وتغريب وتيه، من خلال نهمكم وتكالبكم الحياة المتمدنة التي تحولكم إلى آلات جامدة لا تحس ولا تشعر فتزهق أرواحكم.
وهنا قمة الفلسفة الفكرية التي تنبعث من تحليل عناصر النص.
وجاء الأسلوب السردي على المستوى الفكري التكنيكي يصوغ النص على أنه دعوة، حققت مبتغاها على أنها علاج للنفس والبحث عن المفقود في بصمة التعبير لدى أرواحنا.
سوى ربط واحد أتت به الكاتبة على سبيل المقارنة، لتصور حدة الصراع في القصة في مرحلة الوسط الهادئة، برنات الهاتف المحمول، يصور صوت الحداثة المقرف المقزز الذي صرخ في غير مكانه ليخرج الراوية من استمتاعها لعزف نغمة نشاز، والمقارنة السريعة للعمة التي لا تمتلك جهازا مثل هذا، يشوش عليها ويشوه نفسها مقابل هذا العالم الذي تعيش فيه، ولكنها تمتلك فطرتها تمتلك حواسها: “قطعا عمتها لم تمتلك حقيبة تعج بالأرقام..
كانت تكفيها نظرة آتية من عمق الغاب لتتنبه إلى تعثر معيزة صدّها شوك أو حجر عن ملاحقة القطيع.. كانت مجرد صيحة من أعلى الجبل قادرة على إنذار القرية بقدوم غريب”.
وحسم الصراع بإطفاء جذوة ذاكرته الحبلى بالأرقام بإلقائه في ماء النهر، دلالة على إتخاذ القرار بالتخلي عن كل ذاكرة حياة المدينة بتمدينها وحداثتها، إلى التشبه والتوحد بعمتها، والتمهيد لمرحلة القرار: “لو أن به وعيًا لألقى بنفسه في هذا النهر.. قطرة ماء تطفئ جذوة ذاكرته الحبلى بالأرقام..
أما هي، تحييها الحُصيات تتلألأ تحت صفحة الماء وقد سلّمت أمرها و عددها إلى علم الله الذي لا ينضب”..
كل هذا تمهيدا للقرار ولحظة التنوير التي يجيء صوتها من خلال الخاتمة، بالقرار لعدم العودة والبقاء في القرية، خاتمة فلسفية فكرية بنفس أسلوب النص ولا أروع:
“أين المنبع و أين المصب؟
أيقنت أنها في أول الطريق ،نور في حاجة إلى الظلمة حتى ينير، نهار ينبثق من ليل، وليل ينسج من نهار، 
سفر و عودة..
فهل جاءت القرية مسافرة أم عائدة؟
خلف الجمع، سرحت امرأة رمت بحِملها على عصا هرمة:
سبحان الله، كأنها رحمة، هنا كانت من سنين تقضي أمسياتها إلى أن يحين المغيب، تستند إلى جذع هذه الشجرة وقد كان بعد فتيا، تشرف على النهر، تتدفق بتدفقه، تشع بصفائه، فتصدح بأهازيج المساء تلملم معيزاتها..
وفي ذات مغيب، عادت المعيزات وحيدة إلى الحظائر”.
خاتمة حصرت لكم ما بين علامتين تنصيص بداية التمهيد لها حتى نهايتها، لنكتشف أنها تعد لنا نهاية في تكنيك بديع غير معتاد، هي خاتمة الكشف، هي عمل إسقاط على تاريخها في الماصي، تلك المرأة التي فجأة أخذت القرار بالفرار للمدينة، وتركت معيزاتها تعود وحيدة، تماما كما بعد شوط طويل من العمر فرت هاربة من المدينة عائدة إلى مكانها الطبيعي لتعيش في القرية البدوية وتسرح بالعنزات، حيث نجاة نفسها وروحها.

About The Author

إرسال التعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

Contact