×

شجرة المحبّة …// بقلم : البروفيسور بومدين جلّالي// الجزائر

شجرة المحبّة …// بقلم : البروفيسور بومدين جلّالي// الجزائر

شجرة المحبّة …
ــــــــــــــــــــــــ
في قلب حديقة عتيقة توجد شجرة قادمة من سالف الأزمان، حولها فسحة اخضرار ملفتة للبصر والبصيرة معاً بترقرق المياه في سواقيها وتغريد الطير في جنباتها. جذورها ثابتة في رحم الأرض، وجذعها ضخم قويّ متين، وفروعها المتعددة بأغصانها الكثيرة شاهقة في السماء ممتدة نحو دائرة الأفق كأنها تحلم أن تغطيها بالأوراق والثمار والظلال والرائحة العطرة والهواء الصافي … قيل إن الجد الأول للمنطقة هو مَنْ غرسها في زمن زواجه بجدة المنطقة بعد أن قدّم لها الفسيلة هديةً وتعاهدا على تبادل الوفاء ورفعا الدعاء إلى ظهْر الغيب بإنجاب الأوفياء والوفيات ، وتوالت الأيام في صدق العواطف وصفاء الحياة وتتابع الذرية وعميم الخيرات وعافية المحيط … وبعد غياب الأبوين المؤسسَيْن؛ اختارت الذرية أن تبقى تحت سقف واحد إلى أن تؤسس أسرا من كبيرها إلى صغيرها. وحتى لا تضيع الحقوق؛ لقد تمّ تقسيم ما ترك الوالدان ولم يحدث إلا إشكال وحيد حول مَن يرث الشجرة التي كبُرتْ وأينعتْ وأثمرتْ وأصبحتْ رمزاً له أهميته القصوى في مشاعر أفراد الأسرة جميعهم.
اجتمع الإخوة والأخوات في ظلها وتبادلوا – في صخب حينا وفي هدوء حينا – مقترحات متعددة تتراوح ما بين المعقول واللامعقول من غير أن يتقبّل أحدٌ منهم المساس بالشجرة أو التنازل عن حقه فيها ولو بوزنه من المعادن الكريمة… ولما وصلوا إلى درجة اليأس؛ التمس منهم كبيرهم بمؤازرة صغيرتهم أن يستشيروا حكيما من منطقة أخرى بعيدة اشتُهِر برائع حكمته وعميق ذكائه ونبل مودته لعامة زواره، فكان القبول، وكانت وجهة نظر الحكيم أن تتحول الشجرة من ملكية خاصة قابلة للتقسيم ضمن التركة إلى حبوس عام تشترك فيه الذرية المباشرة للمؤسسيْن ويحقّ لكل فرد منهم أن يُهدي فسيلة من أصل الشجرة إلى الزوج المختار ليغرساها معاً في الفسحة المحيطة بها ثم يعقدا قرانهما تحتها إلى أن تتأسس الأسر الجديدة بالتمام والكمال، وحينذاك يُراجَعُ النظر في ظل هذه الشجرة بمراعاة الظروف الطارئة، وهكذا صار الحال … وبعد سنين عددا؛ تكوّنت الأسر وتنامى تعداد الأفراد وتوسّعت مجالاتهم الحيوية تدريجيا ولم يعد مُمْكنا بقاءُ الوضع على ما كان عليه، فظهر الإشكال مجددا …
اجتمع المعنيون والمعنيات في المكان ذاته وفي ظروف مشابهة للتي حدث فيها الاجتماع القديم ولكن من غير حدة ظاهرة تدعو إلى الصخب ما بين الحين والحين. وبعد مشاورات مكثفة اتفق الكبار على إعطاء الكلمة للأجيال الجديدة التي لم تكن حاضرة عند جذور الإشكال، وتركوا لهم الاختيار أن يفعلوا ما يناسب زمانهم وظروفهم ومستقبل ذريتهم … ولما أصبحت الكلمة عند الأجيال الجديدة حدث التحاور في هدوء وانتهى إلى اتفاق فيه نقطتان لا ثالثة لهما:
أولاهما، أن تبقى شجرة الجَدّيْن حبوسا مباركا عاما، ويضاف إليها أشجار الآباء والأمهات الناجمة عن الاجتماع الأول، مع التزام العائلة بما يجب نحوها من تقدير ورعاية.
والثانية، أن يكون من حق كل مولود منحدر من العائلة بأبيه أو أمه أن يستفيد من فسيلتين من هذه النبتة المباركة : واحدة عند ولادته ليغرسها عنه أبواه حيث ولد، والأخرى عند زواجه ليغرسها بنفسه مع الزوج المختار حيث شاءا …
ورحلت فسائل شجرة المحبة هنا وهناك حاملة معها الأجواء ذاتها التي نشأت وترعرعت فيها الشجرة المباركة الأصلية ذات يوم بعيد، وأصبحت تتجدد وتتعدد باستمرارٍ مساهِمةً في تعميم المحبة والخير أينما غُرِسَتْ …
ومع تعاقب الليل والنهار شاعتْ الصفات الطيبة المرتبطة بغرس الشجرة المباركة وعمّتْ بين عموم الناس قاعدة عامة تقول : كل مولود – ذكرا كان أو أنثى – يولد فيغرس له أبواه فسيلة ويرعيانها سيعيش محبوبا سعيدا، وكل زوج يُهدي إلى زوجه فسيلة حين اقترانهما ويغرسانها ثم يرعيانها معاً سيلفّهما الحبّ والوفاء والسعادة إلى أن تصل االحياة حيث قُدِّر لها أن تصل …
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم : بومدين جلّالي

About The Author

إرسال التعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

Contact