×

مصير … قصة قصيرة بقلم الكاتبة خيرة الساكت /تونس

مصير … قصة قصيرة بقلم الكاتبة خيرة الساكت /تونس

قصة قصيرة بقلم الكاتبة خيرة الساكت من تونس

~ مصير ~

أمي تهزني بقوة :

– أفق عزيزي هيا !

بالكاد أفتح عيني بعد سهرة البارحة مع خالي و عائلته في بيتنا ..

قرأ أبي آيات من العهد القديم .ردد خالي وراءه مغمض العينين.

يضغط على الصليب المعلق في سلسلة برقبته متأثرا ..

تحاول زوجة خالي التركيز و التظاهر بالتأثر مثلهما لكنها سرعان ما تهمس لأمي ببعض الأخبار عن الجيران و تبدأ بالنميمة

و الاغتياب بصوت خفيض بينما تكتفي أمي بالاستماع و الصمت حتى لا تغضب أبي.

الكل يشغلهم وضع البلاد و الفوضى التي بثها الأوغاد ..

التهينا أنا و ابنا خالي باللعب في الفناء ..نتحدى بعضنا أينا يمكنه قذف الكرة حتى تلامس النجوم ..

أرمي بها و أقف تحتها .أراها قبلت النجوم

و عادت بسرعة إلى حضني.

غير بعيد ..تحت شجرة الليمون استلقت ابنة خالي مع أختي تتبادلان الضحكات

و الأحاديث حول شبان الحي .

أقذفها بالكرة فتصيب فخذها .

تصرخ من شدة الألم . ترفع ثوبها و تتفقد مكان الحرقة ..

أشاهد جسمها ضاحكا ..فخذ سمينة بها بقعة حمراء تسيل اللعاب ..

أهتف : بطيخ أحمر ههه!

تشتمني مستنكرة تصرفي :

– ولد لئيم !

عادت أمي لتحريكي مرة أخرى و لكن أكثر شدة من المرة الأولى..

لم أتمكن من فتح عيني ..

حملتني بين ذراعيها .رمى أبي بغطاء فوقي ..

انطلق الاثنان بسرعة . قلب أمي يخفق بشدة أيقظني ..

أبعدت طرف الغطاء قليلا . ظلام دامس مخيف. لولا وجودي في حضن أمي لصرخت بأعلى صوتي.

سمعتها تهمس لأبي :

-إلى أين نتجه ؟

– لا اعرف ! المهم ان نبتعد عن خفافيش الظلام.

ما رأيك بالدير الكردي ؟ سيستقبلنا الأب حاييم ..

– أسرعي هيا!

قال أبي ذلك و يده تحاول تعديل ما يحمله من أشياء في كيس على ظهره.

جسده مستقيم قوي كاجساد الرجال الذين يأسرهم الخفافيش . يطلبون منهم رفع العلم الأسود و تقبيله.. يرفض الرجال ذلك مخلصين للعهد ..يعدمونهم..

تقيد النساء. تساق كالشياه للاعتلاء و الحلب .

يجهزون على الفتيات. يلتهمون كل البطيخ الأحمر.

نهجر. نهرب. نتشرد. يحرق الرب دون أن يحرك البشر ساكنا.

تدمر كنائسنا.. يسطو غراب أسود على تاريخنا ..

أطوف في كنيسة الانسان . كنيسة فخمة ضخمة مزينة بكل اللوحات و الرسوم .صلبانها من ذهب . مباخرها فضة . أدعيتها تلج كل القلوب .الأب فيها رجل وسيم يرتدي بدلة عصرية .يتحد مع الروح. كنيسة للأبيض و الأسود للرب و الإله لكل الأطياف و الألوان..

أشرح لابني محتويات اللوحات ، فوائد الدعاء و مناسبات تلاوته..

كثيرة هي اللوحات .

رقيقة هي الأدعية و متعددة هي المناسبات التي تتلى فيها ..

طويلة كطريق القارب الذي أقلنا تتقاذفه أمواج البحر . يذرو الهواء أحزان قلوبنا التي بدل أن تتناثر تزداد تشبثا بمكانها ..تمسكا بالوطن بالتاريخ..

أتامل كل زوايا الكنيسة. أتشمم كل الروائح المنبعثة..

أشياء كثيرة و لكنني لا أجد عبق التاريخ . أبحث عن التاريخ.

أريد أن أقدمه لابني أن أعرفه عليه .

أعجز عن إيجاده. كل الموجودات حديثة حتى الوطن حديث..

إذا فقدنا وطننا نعمر وطنا آخر جديدا و إذا فقدنا تاريخنا نعيش بدونه.. إنه فقدان أزلي .

لا أحد يمكنه ان يصنع تاريخا جديدا لنفسه.

التاريخ لا يولد مرتين….

أنثى شقراء هادئة الجمال و المشاعر تجلس علي كرسي خشبي في حديقة الجامعة و تقلب أوراق كتاب تاريخ بكل فخر ..

– ” تاريخ حرب و دم و مكائد… !”

انزعجت لمقولتي و زمت شفتيها ممتعضة:

– بعد كل الذي تحصلت عليه من امتيازات في هذا البلد تقول مثل هكذا كلام..! إنه نكران للجميل.

– لست ناكرا للجميل و لكني أريد تاريخا بدل الذي سرقوه مني و هذا مستحيل لأن فاقد الشيء لا يعطيه !

– نحن بلد حضارة و ديمقراطية و يحظى الانسان فيها بحقوقه ..إنه في أعلى قائمة الأولويات..

– حضارة تكنولوجية حديثة قامت على جماجم السكان الأصليين و سرقة ثروات الآخرين..

تصمت زوجتي هازة رأسها في حركة أشبه بموافقة يائسة لكلامي.

تعود إلى التدقيق في الكتاب بينما أعد أنا كم جمجمة يجلس فوقها أمير خفافيش الظلام حتى يحكم كل هذا السواد و الظلام الدامس الذي يطبق على السماء و الأرض.

كم سلاحا تلقاه.. ؟ كم قنبلة فجرها..؟

كم امرأة وطئها.. ؟

كم كنيسة هدمها.. ؟ كم مسجدا دنسه..؟

كم حبا أحرقه ..؟ كم روحا علقها في فضاء عبثه..؟ كم شعبا جرده من تاريخه و رمى به إلى العدم.. ؟

نعود إلى السكن بعد يوم علم يصعد بنا إلى الفضاء الخارجي نعانق المريخ و نطوف بقمريه في رحلة حج علمية..

يجلس ابني إلى ألعاب الفيديو.

تتناثر ألعابه الأخرى حوله .

تأملتها بنظرة فاحصة . لا أرى الكرة .

أقصى أمنياتي الكرة و النجوم و حضن أمي .

تسرع أمي الخطى وراء أبي .

الطريق وعرة و التلة مرتفعة.

أصوات إطلاق نار تلج أذني ضعيفة كمواء قطط آخر الليل التي تنتظر الانقضاض على القمامة .

ثم بكاء و أنين يتسرب عبر الهواء الذي يلفح وجهي أبي و أمي ..

صعدا التلة . عبرا تعرجات الطريق.

وصلا أخيرا. توقفا . أبعدت اللحاف حتى أتبين شكل الدير الذي سيأوينا.

لا شيء سوى ركام منهار.. صخور متناثرة

و برد نشترك فيه أنا و أمي ينخر عظامنا كرصاص الخفافيش.

تكلمت أمي بيأس :

– لقد تبول ابنك….

About The Author

Previous post

راديو الوجدان الثقافي /الحلقة الرابعة من رؤى أدبية في قصيدة (أجمل ما بعينيك) تقديم وإعداد الناقدة سهيلة حماد أخراج الدكتور طاهر مشي

Next post

الحلقة الخامسة من رؤى أدبية في القصة القصيرة (شمس ) بقلم الأديب القاص محمد المسلاتي/ليبيا، تقديم وإعداد الناقدة سهيلة حماد،إخراج الدكتور طاهر مشي

Contact