×

الأنساق البنيوية والثقافية المكوّنة لرواية (الملعون المقدّس) للروائي اللبناني محمد إقبال حرب/لبنان . بقلم الناقد منذر فالح غزالي/سوريا-المانيا

الأنساق البنيوية والثقافية المكوّنة لرواية (الملعون المقدّس) للروائي اللبناني محمد إقبال حرب/لبنان . بقلم الناقد منذر فالح غزالي/سوريا-المانيا

الأنساق البنيوية والثقافية المكوّنة لرواية (الملعون المقدّس) للروائي اللبناني محمد إقبال حرب

بقلم الناقد منذر فالح الغزالي

مقدمة

اهتمّت الدراسات النقدية الحداثية بدراسة جماليّات النص الأدبي، والبنى المختلفة التي يتشكّل منها النصّ، بعيداً عن الكاتب المشكّلِ الأساسي للنص وخالقِه، بالمعنى الحرفي للكلمة، لدرجةٍ وصلت فيها البنيوية للقول بموت الكاتب، فأصبح النص الأدبيّ أشبه ببناءٍ منعزلٍ في بيئةٍ مهجورة، مفرّغاً من إنسانيته، سواءً في الطرح أو في الغاية؛ الأمر الذي استدعى مناهجَ نقديةً ما بعد حداثية تتجاوز تلك المرحلةَ في النقد الأدبي، وتعيدُ للأدب إنسانيته، وللكاتب اعتبارَه وقيمته، بصفته المكوّنُ الرئيس الذي يصبّ في النصّ، إضافةً إلى رؤيته التي يريد إيصالها، أنساقاً ثقافيةً ونفسيةً لا واعية، تسري بين الكلمات، كما تسري المياه الجوفية بين الصخور في طبقات الأرض الباطنة.

كان منهج النقد الثقافي أهمَّ مناهج النقد ما بعد الحداثية التي تصدّت لتحليل الأنساق الثقافية المضمرة بين البنى الفكرية والجمالية في النصّ الأدبي.

تحليلي لرواية الملعون المقدّس للروائي اللبناني د. محمد إقبال حرب سينطلق من منهجٍ قريبٍ لهذا المنهج، أو محايثٍ له، فبدلاً من كشف الأنساق الثقافية المضمرة في الرواية، سيكون مهمة هذه الدراسة تحليل الأنساق الثقافية والفكرية المكوّنة لبنية الرواية من حيث الجمالية السرديّة والأسلوب، والرؤية؛ ولهذا المنهج مبرّراته التي تنطبق على هذه الرواية بالذات أكثرَ من غيرها، نظراً لبنيتها الخاصة التي تتّسم بالطروحات الفلسفية والفكرية، وحبكتها الأساسيّةِ التي تدور في فضاءاتٍ غرائبية أقرب للميتافيزيقية.

أولاً: المؤثّرات الثقافية المكوِّنة للبنية السرديّة

1. العنوان

الملعون المقدّس! بنية لغويّة تحيل إلى الديني من جهة، وإلى الغرائبي الخارق من جهة ثانية، من حيث استحالة جمع هاتين الصفتين في ثنائية واحدة؛ كما لا يستقيم قولنا المقدّس المدنّس، أو الإله الشيطان، الحقّ الباطل… إلى ما هنالك من هذه الثنائيات.

نرى مرجعيّة هذا العنوان في الفكر الإسلامي من خلال طبيعة إبليس الثنائية؛ فمن ناحيةٍ، هو أحد الملائكة الذين كلّمهم الله، ومن الناحية الثانية هو الشيطان الرجيم الذي تُنسَب إليه كلّ شرور الإنسان وموبقاته؛ وهذا الجمع بين الملعون والمقدّس نجد مرجعيّته لدى غلاة الصوفية الذين يَرَون أنّ إبليس هو “أكمل العباد وأفضل الخلق توحيداً” لأنّه لم يسجد إلا لله حسب زعمهم.

عبّر الحلاج عن محنة إبليس بإيجاز رائع بقوله:”لما قيل لإبليس اسجد لآدم، خاطب الحقَّ: ارفع شرف السجود عن سرّي إلا لك حتى أسجد له؟ إن كنت أمرتني قد نهيتني.”

وقد تناول الحلّاج ما أسماها محنة إبليس في كتابه (الطواسين)، حيث يستخلص القارئ أن مأساة إبليس تكمن في أنّه فُرِض عليه اختيارٌ مصيريٌّ بين الواجب المطلق في التقديس والتوحيد، وواجبات الطاعة الجزئية التي أمره بها الله، فاختار المطلق ليعيش محنته المأساوية[1].

بنية العنوان المفارقة هذه تثير الدهشة وتضع سؤال الكشف عن المضمون المستتر تحت هذا الازدواج العجيب منذ العتبة الأولى للرواية.

2. بنية السرد

أ- الفانتازيا،

أو العجيب الخارق حسب الترجمة العربية للمصطلح، تتلخص الفانتازيا بإدراج العناصر الخيالية داخل إطار متماسكٍ ذاتيّاً، بحيث يظلّ الإلهام النابع من الأساطير والقصص الخرافية فكرةً أساسية متّسقةً بداخل هذا الشكل السردي[2].

افتتح الكاتب روايته بحدثٍ واقعيٍّ بسيط، واستدرجنا، قرّاءً، بذكاءٍ، حتى أدخلنا في خضمّ أحداثٍ متشابكة، لنجد أنفسنا، وبأسلوب سلس، ندخل لجّة أحداثٍ خارقة، رسم لها الفضاء المكاني بشكلٍ يتناسب مع طبيعتها الغرائبية، راسماً حالة أشبه بالحالة الحلمية؛ إذ ينطلق من الوقع، سواء بالحدث أو الفضاء المكاني أو الشخصيات، ليشكّل من هذه العناصر الواقعية حالةً أسطوريّةً، تشدّنا وتجعلنا نتفاعل معها، لا لمنطقيّتها أو تماسكها الفكري؛ لكن لكونها مبنيّةً في بيئة مهيّئةٍ منذ البداية، تجعلنا نقبل منطقها الفانتازي ونتفاعل معه، كما يتفاعل الحالم مع عوالم حلمه، ما دام غارقاً في النوم.

 ب- غلبة العرض (الحوار) على السرد

اختيار الكاتب هذا الدرك الأسفل من الآثام والقذارات الأخلاقية التي تصل بالقارئ حدّ الاشمئزاز والغثيان، ثمّ محاولته الوصول إلى مرحلة الغفران والقول “من قال إن الشر سيء دائما وإن الخير جيد دائمًا؟”[3]، تستوجب دفاعاً قويّاً، دفاعاً وجودياً، فيكون الحوار صراعاً عميقاً بين المتحاججين، فلسفيّاً في جزء منه، نفسيّاً في جزء، ميتافيزيقيّاً في جزء آخر، ما يعطي للكاتب القدرة على طرح رؤاه وما يعتمل بداخله من أفكار على ألسنةٍ شخوص الرواية، ويتقن حيلة التخفّي وادّعاء الحياديّة.

من ناحيةٍ ثانية، الرواية تكتظّ بالأفكار والحجج المعاكسة، بحيث إنه في الحوار الواحد تجد الميتافيزيقي يساند المادّي، والفلسفي يحايث الأسطوري، والبياني يلامس العلمي، والأحكام والمحاكمات العقلية أو الغيبية؛ كلّ ذلك حشده الكاتب على ألسنة شخوصه، بشكل حواراتٍ حارّة نابضةٍ بالحياة والحجج والأحكام، ولعبة الإقناع تستوجب ابتعاد الكاتب عن الظهور في ايٍّ من تلك المحاكمات؛ وقد سخّر الشخصيّات، الواقعية منها أو العجائبية، موظِفاً الحوار بشكليه الصريح والذاتي أو المونولوج توظيفاً أدّى الغرض المطلوب منه.

ج- أسلوب القصة الفلسفية

عُرِفت القصة الفلسفية في التراث العربي الأدبي والفلسفي، وتعتبر قصة حي بن يقظان للفيلسوف الأندلسي ابن طفيل أكمل تلك القصص، وأكثرها تأثيرا على الأدب في العصور اللاحقة، لا سيما الرواية الأوروبية. 

وحي بن يقظان قصة تشتمل على فلسفة ابن طفيل، وقد ضمنها آراءه ونظرياته الفلسفية في الوصول إلى طريق الإيمان بالفطرة.

يمكننا أن نرى التأثير، من حيث اتخاذ القصة وسيلةً لعرض الأفكار والرؤى الفلسفية العميقة بأسلوب روائي.

ورواية إميل لجان جاك روسو، التي عرض فيها فلسفته في التربية. فوظّف الأداة الروائية متجسدةً في إميل ومعلمه لتصوير الطريقة المثلى لتربية المواطن.

الكوميديا الإلهية لدانتي

يستطيع القارئ أن يرى تقسيم الرواية من حيث الحبكة وسيرورة الأحداث إلى ما يشبه التقسيم الذي اتبعه دانتي في ملحمته الطويلة؛ من حيث إنّ دانتي لخّص في الملهاة حياته وتعليمه وآراءه الدينية، وحشر فيها ما يعرفه من علوم الكون والطبيعة والفلك، في عصره، ومن حيث تقسيم الرواية إلى ثلاثة أجزاء: الجحيم، المطهّر، والفردوس.

في القسم الأول والعالم الغرائبي الذي رسمه الكاتب من حيث المكان: ” كان البيت منعزلاً عن بقية البيوت المجاورة، بل وحيداً في أرض جبليّة يحاذي وادياً شاهقاً”، “نباح كلاب تبعه خرير ماء يقصف طبيعته فحيح أفعى”، “تحت عاصفة من الظلام الدامس”؛ والأهمّ من صورة المكان هو ما فيه من موبقات وعقاب تشمئزّ منها النفوس، وقذارة في المكان وفي الضمائر تدعو للإقياء، يصوّر لنا الجحيم، والخطيئة والعذاب واليأس من الغفران.

أما المطهّر فيمكن تلمّس بدايته مع بداية الفصل الحادي عشر حيث يستهلّه الكاتب بهذه الصورة: ” خرجت دُوران مبعثرة الوجود كفراشةٍ خرجت من شرنقتها بعد سجنٍ طويل دون أن تدري ما هي كينونتها التي أفرزتها تجارب الأيام الفائتة”، ثمّ هذه الصورة الرائعة: “كان عبق الصنوبر مع لحن الغابة الأزلي دعوةً للركون إلى نتوء في الأرض بدا وكأنه حضن أمٍّ تنتظر غائبًا”.

يلاحظ أيضاً في هذا الجزء من الرواية الاعتناء بجماليات السرد، بالأخصّ؛ الوصف الجميل الهادئ لعناصر الفضاء الروائي، ولدواخل الشخصيات، وغلبة ظهور شخصية دوران، باعتبارها المعادل الرمزي لغفران ما ارتكبه أبوها من شرور بحقها وحق أمها، وحق الآخرين. ويكثر في هذا القسم من الرواية استخدام الأنساق الثقافية الدينية، باختلاف منابعها، وكذلك نسق الحكمة، والأقوال التي ترقى لمصاف النظرات الفلسفية.

أما القسم الأخير من الرواية، الفردوس، فيمكننا أن نختار له بدايةً حوارَ دوران مع إينويا، وقرارَها الحاسم: “أعتقد بل أكاد أجزم بأنني اخترت سبيلك لأستمرّ في الحياة كما أريد لا كما تريدين… حياتي ثمينة ولا أريدها أن تنتهي بائسة.”؛ وكما في جحيم دانتي ينجو المذنبون، في الرواية، بمعجزةٍ تشبه معجزات الآلهة، عن طريق إينويا التي تمثّل الوحي الإلهي، وعن طريق الحبّ غير الأناني المتمثّل بعلاقة دوران والدكتور داني، الشخصية التي أوجدها الكاتب متأخّراً ليختم بحبّه دوران الرواية.

ثانياً: الأنساق الثقافية والفكرية المكوّنة للبنية الدلالية

الأسطورة والقصص الديني

الأسطورة هي حكاية تقليدية تروي أحداثاً خارقة للعادة، أو تتحدّث عن أعمال الآلهة والأبطال، وهي تعبّر عن معتقدات الشعوب.

نظراً للبنية الخاصّة للرواية الفانتازية، وعالم الخيال الذي يمتزج بالواقع، يلجأ الكاتب لاستعارة عوالم أسطورية سواء في الجمالي من السرد، تعزيزاً اصورة ما يريد ترسيخها في ذهن القارئ، أو تعزيزاً لفكرة أو رأي يطرحه أحد الشخوص مستنداً في (برهانه) على نتفةٍ من أسطورة، أو عنصر رمزي من عناصرها.

“محاربة أمازونية[4]

لعلّ ما يلفت النظر في بنية شخصية عرقول، هو ذلك الكمّ الهائل من الموبقات والأفعال المشينة التي لا تنتمي للطبيعة البشرية. هذه الشخصية تذكّرنا بشخصية الدكتور فاوست، الذي عقد صفقة مع مفتستوفيليس الشيطان، وهذا، أي الصفقة مع الشيطان، هي رمزية ثقافية،

نسق الثقافة الشعبية

يتبدّى هذا النسق الثقافي متناثراً على أجزاء مختلفة من الرواية، سواء بشكل حِكَم، أو مقولات تشابه الأمثال، أو بتشكيل الفضاء الروائي في بعض أجزاء الرواية؛ وأحياناً يظهر النسق الثقافي الشعبي بموقف الكاتب من التقاليد البالية، أو فضح بعض العيوب الاجتماعية والتقاليد البالية:

“هل تعلم أن كثيرًا من الأسر في ليلة الزفاف ينتظرون خارج غرفة النوم حتى يمد الرجل «الفوطة البيضاء» وقد تضرجت بدماء الضحيّة معلنة عفاف العروس”[5]

أو طرح قضية تربوية يلعب فيها المجتمع دورا فاسدا ومفسدا:

“ألم يسأل أحد منكما أو من الناس عن تربيتي، تنشئتي، فقري، بل عن الذئاب التي نهشتني من رجال ونساء؟ في البيت والعمل، في الوطن والغربة…”[6]

أو طرح أسئلة فيها اتهام مبطن، أو صريح للمجتمع من مثل:

“من قال لك بأن البشر أنقياء؟ هناك كثير من البشر أكثر منك بشاعةً؛ لكنهم يعرفون كيف يلبسون أقنعة البراءة”[7]

نسق ثقافي ديني

وهذا النسق إلى جانب النسق الفلسفي هو النسق المهيمن على لغة الرواية، والنسق الديني في الرواية لا يأخذ ثقافةً دين بعينه، أو اتجاهاً دينياً محدّداً؛ لكن الكاتب استعان بثقافته الدينية، وهي ثقافة تبدو واسعةً ومتعدّدة المشارب، من ناحيتي الدور الوظيفي، في توضيح رؤيته ككاتب، وإيصالها بشكل سلسٍ مقنّع، وكذلك من ناحية الدور الجمالي في التوظيف البلاغي والبياني.

ورد في الصفحة 62 من الرواية في إحدى الصور الوصفية: “كأنما تقدم قربانًا بوذيًا برجاءٍ لا تجزم بأنه سيكون مقبولاً[8]

كذلك:

 “عادت بضع خطواتٍ قهقرى لتنقذ الطفل الذي كان بكاءه ندبةً حسينيةً، سمعتها ذات عاشوراء”[9]

وأيضاً:

“يا بشرى هذا غلام”[10]

لا يخفى التأثر بالقرآن الكريم:

{يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} مريم الآية 7

{قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لي غُلَٰمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} مريم 20

ناهيك عن قصة خلق الغلام في الرواية دون زواج، وقصة خلق المسيح في الديانات التوحيدية الثلاث.

“بوركتما من حبيبين أنجبا قبل أن يتزوجا أو يختليا ببعضهما”[11].

وأخيراً لنقارن بين هذه العبارة التي وردت في الرواية:

“بعد أن تربّع السكون على فراغٍ أزلي لآماد طويلة، تمخَّض عن الكلمة صوت ارتجَّ له السكون وضاق به الفراغ”[12]

وبين الآية من إنجيل يوحنا:

 {فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ} (يوحنا: 1-13)

أو الآية القرآنية: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} يس 81

بالإضافة إلى هذه الإشارات الواضحة لتأثير النسق الديني في الرواية، نجد ملامح دينية مختلفة من غير الديانات التوحيدية بطوائفها المختلفة، مثل القربان في الديانة البوذية، أو النار المقدسة التي تطهر في الديانة الزرادشتية حيث وردت رموزها وآثارها في بداة ما اعتبرناه الفردوس، والأضداد التي تحكم كل شيء في الوجود أو (اليين- يانغ) في الديانة التاوية، ويلمس القارئ الفطن أثراً لعقيدة التقمص، وعودة الأرواح من إنسان إلى آخر، يبدو هذا جليّاً بالطريقة التي حوّلت فيها إينويا عرقول من رجل أهلكته ذنوبه، إلى طفل بريء بولادة أشبه بالولادة القدسية، لتشير إلى صفاء الغفران.

ليس مستغرباً أن تكثر الرموز والإشارات، أو حتى التناصّات الدينية في الرواية بهذه الكثافة، فهي رواية تنتمي بالأساس إلى عوالم أشبه بالعوالم الغيبية، بل إنّ قسماً كبيراً من أحداثها يدور في عالم غيبي ميتافيزيقي، تحرّكها شخصيّات وصفت بالغيبية مثل إينويا، رسول الآلهة إلى دوران التي وهبت الغفران لعرقول ودوران، وكذلك نوس، مع ما لهذا الاسم من رمزية معنوية حيث إنه يعني النفس بالمفهوم الغنوصي الصوفي.شبه بالعوام

نسق ثقافي فلسفي

قلنا في حديثنا عن الأنساق البنيوية بأن الرواية استفادت من أسلوب الرواية الفلسفية، فليس مستغرباً والحالة هذه أن تمتلئ الرواية بالأنساق الفلسفية، كحوارات بين شخصيات الرواية، أو بشكل نظرات فلسفية يضعها الراوي في بنية السرد.

وفي الحقيقة إن الحوارات في معظم الرواية، هي حوارات في العمق، استعان فيها الكاتب بمعارفه ومنابع ثقافته المتعددة المشارب لأنّ طبيعة الموضوع تحتمل هذا النوع من الحوارات.

وقد جاء النسق الثقافي متعدّد المشارب والاتجاهات الفلسفية، ما بين المادية والمثالية، الماركسية والهيغلية، العرفانية الصوفية، أو العلمية الفيزيائية، وحتى مقولات علم الكلام للمتكلمين الإسلاميين، ظفرها الكاتب بضفيرة واحدة، لدرجة أن القارئ يجد مقولة في الفلسفة المادية تلاصق تماما مقولة في الفلسفة المثالية في حوار واحد، وربما في عبارة واحدة.

وفي معرض تحليلي للرواية وعزلي لهذه الأنساق تعرّفت على الكثير من الرؤى الفلسفية، ولو أعدت التفكيك كمن جديد سأكتشف آثارا فلسفية جديدة، فالرواية تحفل بالكثير من الآراء الفلسفية لمختلف المذاهب، من مختلف العصور.

“نداء الاستغاثة لا يجدي، تعطلت موجات الاتصالات مع الرفيق الأعلى، اتصالات وهمية اخترعها بني البشر ليسكتوا جماح خوفهم. ذاك الخوف هو صانع الآلهة.”[13]

السؤال الوجودي على لسان عرقول: “ما ذنبي في سيرة حياتي المسيّرة بحوادث جرت عليّ أوردتني درب المعصية؟[14]“.

هو السؤال ذاته الذي اختلف عليه علماء الكلام في التراث الإسلامي، بين الجبرية والقدرية؛ أليست هي قضية الحريّة الإنسانية التي نادى بها المعتزلة، فلوحقوا بلعنة السياسة منذ قرون بعيدة؟

ولننظر إلى هذا الكلام على لسان (نوس): “اعلم يا عرقول أن الكون جسد واحد مترامي الأطراف، وكل ما فيه من مادة ان هو إلا خلية مهمَّة لا تقل أهمية عن غيرها.”[15]

أليست هي فكرة وحدة الوجود؟ حيث إنّ: “وحدة الوجود مذهبٌ فلسفي يقول بأن الله والطبيعة حقيقة واحدة، وأن الله هو الوجود الحق، ويعتبرون الله صورة هذا العالم المخلوق، أما مجموع المظاهر المادية فهي تعلن عن وجود الله دون أن يكون لها وجود قائم بذاته. وهي فكرة قديمة أعاد إحيائها بعض المتصوفة من أمثال: ابن عربي، وابن الفارض وابن سبعين والتلمساني والذين تأثروا بالفلسفة الأفلاطونية المحدثة وفلسفة الرواقيين“.

ولننظر ما كتبه ابن عربي في فصوص الحكم عن وحدة الوجود:

“فالحق خلق بهذا الوجه فاعتبروا    وليس خلقًا بهذا الوجه فأدركوا

جمِّع وفرِّق فإن العين واحدة        وهي الكثيرة لا تبقي ولا تذر[16]

لقد أنشأ الله، حسب ابن عربي، حقائق العالم من صورته الظاهرة، فجسمه من جسم العالم، ونفسه من نفوس العالم، وصورته صورة العالم كله:

“الحق والخلق عند ابن عربي اسمان أو وجهان لحقيقة واحدة، إذا نظرت إليها من ناحية وِحْدتها سميتها حقًّا، وإن نظرت إليها من ناحية تعددها سميتها خلقًا، ولكنهما اسمان لمسمّى واحد.[17]

ومن الفيلسوف الألماني هيغل يأخذ مفهوم (الفكرة المطلقة) التي بني عليها هيغل فلسفته المثالية الجدلية:

“أنت الفكرة التي تجلّت من كينونتي”

ومن قوانين الجدلية المادية يستفيد من قانون صراع الأضداد حيث يرد في أحد الحوارات العميقة:

“الكون قائم منذ نشوئه على مبدأ صراع الأضداد”

ونجد أثر الفيلسوف برتراند راسل من حيث أن “الخوف هو أساس الدين”

ونختم ببعض الاقتباسات مما قاله السارد في رؤيته للإنسان، العدل والخير والشر، ولا نحتاج لتأكيد بأنّ كلّ حرف وكل عبارة تمرّ في الرواية سواء على لسان الراوي، أو إحدى الشخصيات هي رؤية الكاتب، خالق النص.

“الكون لا يفكر كالبشر، لا يحاسب الأشرار وكأنهم طريدة ينتقمون منها… مقدّرات الكون تتفاعل من أجل هدفٍ أسمى من الانتقام[18]

“تسوّل الشفقة أقسى من دمار السكون[19]

“لا تستطيع الحكم قبل سماع دفاع المتهمين”[20]

“حياتي ثمينة، ولا أريدها أن تنتهي باليأس[21]

“كلمة حب واحدة أعتى من براكين الكراهية[22]

الخاتمة

إضافة إلى تلك الأنساق التي مررنا عليها، يمكن للقارئ أن يصادف أنساقاً ثقافيةً وفكريةً أخرى، فالرواية لا

تعدم اللغة العلمية الجديدة في الفيزياء والكيمياء، والأنساق الصوفية كالغنوصية أو العرفانية، وشذرات من

التناص مع الآيات القرآنية والمصطلحات القانونية.

باختصار، هي رواية تحتشد فيها أنساق ثقافية متعددة ومتنوعة، وظّفها الكاتب في سبيل إضفاء العمق وبثّ

الحياة في الحوارات، وإتقان لعبة التخفي بصفته كاتب الرواية، وقد نجح بذلك أيّما نجاح.

منذر فالح الغزالي

بون في 15/8/2021

الهوامش


[1] انظر جلال صادق العظم، (كتاب نقد الفكر الديني)

[2] ويكيبيديا

[3] رواية الملعون المقدّس ص149

[4] الملعون والمقدّس ص112

[5] الملعون المقدس ص32

[6] الرواية ص56

[7] الرواية ص117

[8] الرواية ص51

[9] الرواية ص 59

[10] الرواية ص139

[11] الرواية ص143

[12] الرواية ص148

[13] الرواية ص16

[14] الرواية ص18

[15] الرواية ص110

[16]  فصوص الحكم، ص٧٩.

[17] أبو العلاء عفيفي (التصوف، الثورة الروحية في الإسلام)

[18] الرواية ص116

[19] الرواية ص123

[20] الرواية ص129

[21] الرواية ص130

[22] الرواية ص135

About The Author

Contact