×

(الكينونة بين لعنة الانفصال وقدسية الجمع) بقلم: الناقد رائد مهدي / العراق

(الكينونة بين لعنة الانفصال وقدسية الجمع) بقلم: الناقد رائد مهدي / العراق

(الكينونة بين لعنة الانفصال وقدسية الجمع)

بقلم: رائد مهدي / العراق

موضوع نقدي كتبته عن رواية (الملعون المقدس) للأديب الروائي اللبناني د. محمد إقبال حرب.

البداية:

في مستهل حديثنا عن هذه الرواية الإنسانية في موضوعها والفلسفية بفكرتها والسيكولوجية في أحداثهاوالاجتماعية في شخصياتها والعلمية في قناعتها والنادرة في نوعها والشاملة في وجهتها ومقاصدها، أود التحدث عن مفهوم أولي لما تسمى باللعنة فأقول عنها متسائلا إن كانت نتيجة أم سبب، من المرجح أن اللعنة هي الأثر و رد الفعل والانعكاس والجانب المقابل للصورة والحدث ويمكننا وصفها بالاستحقاق والجزاء وثمرة العمل والصدى والظل الذي يلازم صاحب الصوت وهيئته.

مفهوم اللعنة في الرواية:

تمثل في عذابات طالت الجميع بدأ بذلك الرجل البائس (عرقول) المعذب منذ طفولته جسديا ونفسيا وحين أدرك ذلك التشوه في شخصيته الاجتماعية وفي صورته بمرآة نفسه بدأ بعكس تلك التشوهات وفي محاولة منه للتخفيف من أعبائها عليه فبادر إلى تصدير بعض منها إلى كل من تطاله إرادته وقدرته فكان الهدف نحو الأطفال والصبيان والفتيات القاصرات بل على مستوى محارمه فلأخته كان نصيب منه ولربيبته بل حتى البقرة والأتان لم يسلما منه ومن انعكاساته حتى صار ذلك المدعو (عرقول) هو لعنة بحد ذاته وأينما حل تحل اللعنة على المكان وعلى الحاضرين بذلك المكان بعد مرور حقبة من السنين تحول عرقول من شخص متلق للعنات الى مصدر ناقل لها وكان من أقسى عذاباته أنه لايعرف سبب منطقي لاختياره كمتلق للعنات وناقل لها إلى الغير فأعظم العذابات التي كانت تجلده كانت تبدأ من كلمة لماذا وهذا التساؤل لم يكن يعود عليه سوى بصدى صوته مهما تعالى صراخه لن يسمع إلا صوته رد وجواب وصدى يضاعف عليه العذاب.

تفسير الظاهرة لايغير في ماهيتها:

لقد كان “عرقول” وابنته “دوران” في أجواء تضج بما يدفعهما وبشدة لمحاولة فهم واستيعاب الذي يجري معهما من مصائب وأحداث وضغوطات وكانا يبذلان أشد الجهد بغية العثور على تفسير لكينونتهما وعن وجهتهما التي اختارها لهما قدر لايعيان شيئا من إرادته ومراداته فكانت “دوران” تلح بشدة على “إينويا” لتعرفها بنفسها والأدهى من ذلك أن “إينويا” أيضا لاتعرف شيئا عن نفسها وعن مغزى كينونتها وكل حصيلتها المعرفية في ذلك أنها تفترض معرفة دورها المناط إليها تجاه “دوران” وتجاه شخصيات مماثلة من الماضي وحتى “إينويا” دفعت ثمنا باهضا في أواخر الرواية، أعني ثمنا باهضا لمعرفة حقيقة كينونتها وما أن عرفت أنها مجرد فكرة صادرة عن العقل الكوني الأسمى وتقابلت مع ذلك العقل المسمى “نوس” حتى تلاشت وزالت، أما سبب ذلك التلاشي فهو إدراكها أنها لا تملك وجودا حقيقيا إنما هي انعكاس وتجلٍّ وصورة طبق الأصل لفكرة هي ملك لصاحبها ومفكرها، لقد كانت ترى “إينويا” صورتها وكانت ترى أنها قناة وممر لتلك القوى الخارقة التي تمر من خلالها للتدخل في هذا العالم لصالح ذلك العقل صاحب القدرات والإرادة الفعلية نعم لقد زالت “إينويا” وانتهى وجودها ولم يبق منها شيء فالقطرة عادت إلى البحر واندمجت معه مثلما هي من قبل كانت جزءا لايتجزأ منه.

محاولات يائسة للنجاة من الفخ والمأزق:

لقد اعتمد كل من “عرقول” و “دوران” طرقا لمواجهة الأزمات والفخاخ التي علقوا بها فكان كل منهما يعتمد أسلوب التبرير وتوجيه أصابع اللوم نحو المجتمع وإلى الآخر وإلقاء المسؤولية أحيانا على عاتق القدر باعتباره المتسبب بذلك التجمع البشري اللامنسجم واللامتناسق والذي يكون بعضه سببا ومعاناة للآخر، لقد كان صوت الضمير عاليا مجلجلا ولابد من إسكاته بأعذار مقبولة ومبررات تهدأ من غضب ذلك القاضي الذي لا تأخذه في الحق لومة لائم، إنه القاضي بمحكمة ضمير الإنسان والذي يوما ما يضرب بمطرقته على وعي الأنسان فيوقظه من نومه ورقاده وسكره.

الطريقة الأخرى التي اعتمداها كانت متمثلة باستعطاف الآخرين مرة والتظاهر بالقوة والاستغناء تارة أخرى، لقد انحصر همهما بالخروج من الفخ و كسر اللعنة بأية طريقة وقد بلغ الحال لدى “عرقول” بتصديق توبة صديقة سمير فظن أن نهاية اللعنة ستكون هنا وتارة أخرى يجد “عرقول” نفسه مضطراً للتصديق بأن تعويذة معينة تكمن بها نجاته ومرة أخرى يسمح “عرقول” إلى هلوسات عقله المريض فيظن أن النجاة تكمن مع الفحشاء والمنكر والقتل، ورغم أنه كان يعترف أمام قاضي الضمير بجرائمه ورغم أنه تبرأ منها جميعها وأنكرها وندم عليها أشد الندم لكن بذرة اللعنة كانت موجوده به والمتمثلة بشعوره بمظلوميته ومغدوريته وأنه لم يستوف حقه من ظالميه ومعذبيه وينتظر فرصة ينتصف بها لنفسه . إنه تصور بقتله “لعادل” يكون قد أخذ حقه من ظالمه لكن الذي فعله لم يف بالغرض ولم يؤدِّ سوى لنقل وتحويل مصدر العذاب والألم من خارج الإنسان إلى داخله إنها لعنة الثأر والانتقام.

لعنات فردية ولعنات جمعية:

لقد تطرقت الرواية إلى لعنات طالت شخصيات الرواية على المستوى الفردي وهناك لعنات جمعية تمثلت في جماعة “الطفل البكاء” و”جماعة الكرة ثلاثية اللعنات” كانت تلك لعنات تطارد المجتمع بكامله وتستهدف كل من هو خارجها لتحكمة إلى ربقتها بشتى طرق المكر، منها بكاء القنفذ الشوكي بصوت طفل رضيع تتقطع القلوب لسماعه وتارة أخرى بالزوابع والأعاصير المرعبة التي ترغم المرء على الاستسلام والرضوخ لإرادتها.

الأزمة والعقدة في الرواية :

يجد المتتبع لأحداث الرواية جميعها تشتبك وتنعقد في جانب استجابة الجميع وأعني شخصيات الرواية تجاه الحياة ومتغيراتها وطوارئها، فكانت ردود أفعالهم تعقد الأمور أكثر وتصعب مهمتهم في الخلاص والتحرر من تلك الضغوط والعوالق وكانوا يسترسلون في حوارات ولم يكونوا يتجاوبون مع محدثيهم تجاوب الباحث بجد عن الخلاص بل كانت أغلب حواراتهم موجهة للدفاع عن وجهات نظرهم وتبرير مواقفهم وسلبياتهم وتبرئة أنفسهم وعدم تحملهم لمسؤولية ماصدر منهم في الماضي وأعني بذلك “عرقول” وابنته “دوران” فكان “عرقول” يصطدم مع “نوس” في حواراتهما كذلك “دوران” مع “إينيويا” لم يكن حوارها حوار الباحث عن حقيقته والطالب لحلول مجدية بل محرد إصرار على آرائها وقناعاتها وعدم تنازلها عن أسئلة كانت تكررها على “إينويا” من قبل من أنتِ؟ وكذلك الحال مع “عرقول” الذي كان همه الوحيد معرفة مُعذّبه الذي تبين فيما بعد أنه زوج أخته “زينب” ولم تكن تلك النتيجة تخطر على بال عرقول ولا في خيالاته لولا إفصاح صاحب الشأن وكشفه عن نفسه وهويته ، وكان الأجدر “بعرقول” أن يصوب تركيزه نحو جهة خلاصة بدلا عن انشغال حواسه وذهنه بمعرفة وكشف المتسبب بالمعاناة، وفي هذه الخصوصية تحديداً يضع كاتب الرواية يده على داء ابتلت به البشرية وهو تركيزهم على ما هم ليسوا بحاجة إليه والإعراض عما هو أهم وعما هم أحوج اليه بالفعل واستجابتهم التي لاتلبي المطلب، تلك الاستجابة التي هي مجرد رد فعل لا أكثر وشتان ما بين فعل ومبادرة وإنشاء عمل خلّاق وبين رد فعل لايخرج عن أبعاد الفعل وطبيعتة، لذا تجد معظم البشر يقابل الكراهية بالكراهية ويقابل الانتقام بالانتقام بينما الإنسان الواعي المستنير المنغرس في حاضر الكون والغير منفصل عن روحه الجمعية الشاملة تجده يقابل الكراهية بالمحبة ويقابل الإساءة بالعفو والصفح ويقابل العدوان بالسلام إنه يرفض أن تكون ذاته ووجوده ووجهاته مجرد ردود أفعال وانعكاسات لأعمال آخرين ومرادات لآخرين؛ لأنه حين يكون سلوك الإنسان الذهني والحسي منحصرا بردود أفعال وانعكاسات عندها سيكون المرء محكوماً بالعبودية لإرادة الآخرين وسيكون جزءا من برنامجهم بل سيكون مثلما هم أرادوا له تلك الكينونة، ولذا يكون العفو والمحبة والسلام هو الحل الأمثل فبذلك صلاح الإنسان وصلاح الكون ايضاً لأنه من غير المعقول أن نعالج الجرح بالجرح لان الذي نفعله آنذاك هو مجرد توسيع مساحة الجروح وزيادة رقعة الألم، ولذلك كان رجوع “عرقول” من كينونة الشيخ إلى كينونة الطفل يمثل الرجوع إلى حالة الإنسجام مع الكون بشكل تام فليس للطفل طبيعة منفصلة عن طبيعة الكون بل إن الطفل لايعرف الحقد ولا الانتقام ولايشعر بالتذمر من الحياة والواقع.

من أين تاتي اللعنات؟

لقد اختلفت وجهات النظر عن مصدر اللعنات فمن وجهة نظر دينية أن مصدرها هو الابتعاد عن الإيمان بالأرباب والآلهة وأما من وجهة نظر علمية فمصدر اللعنات هو الجينات الوراثية والناقلات المورثّة، وأما من وجهة نظر اجتماعية فمصدرها الخبرات والتجارب والسنون الأولى للطفل، ومن وجهة نظر نفسية فمصدرها ذهن الاإسان وبرمجته، ومن وجهة نظر فلسفية فمصدرها قبول الإنسان لدور الضعيف واستمالة عطف الآخرين على شاكلة “جماعة الطفل البكاء” واستعمال المكر والغدر في بناء قوتهم وتعزيز كينونتهم كما في “جماعة الكرة الثلاثية اللعنات” وأما من وجهة نظر روحية فمصدرها الاستقلال والانفصال عن طبيعة الكون ونسيجه وأعني بذلك الانفصال ذهنياً من خلال إطار فكري على مقاسات طبيعة مستقلة للإنسان توحي إليه بأنه جزء منفصل ومستقل عن نسيج الكون والوجود ولذلك تكون حدود مسؤولياته فقط مقتصرة على ما يدور بذهنه ۅعلى وجهات عواطفه وأهوائه فحين يدرك الإنسان كل شيء على أنه جزء مكمل لوجوده وليس منافس له أو عدو له بل وأينما يجد الخلل في إنسان أو حيوان أو جماد فسوف يتعامل معه كجزء من وجوده متعدد الصورة ومثلما يتقبل نفسه ويسامحها سوف يتقبل الآخرين ويسامحهم وبذلك يصلح كل عطب ويرتق كل فتق، أيضاً تناولت الرواية عودة “عرقول” الطفل إلى ابنته “دوران” دون علمها، وبالطبع هذه العوده ممكنة علمياً من خلال الجينات الوراثية وعودة الأجيال السابقة إلى الحاضر من جديد، الملفت للنظر هنا أن “عرقول” الذي هو الملعون يحصل على فرصة جديدة للرجوع إلى نسيج الكون الحي السليم وبذلك تكون اللعنة هي مجرد وجهة نظر ورؤية تفسيرية من صناعة أذهان البشر لانه ليس هناك ملعون إلى مالانهاية ويقابل ذلك أنه لايوجد ماهو مقدس إلى مالانهاية وأن اللعنة والقدسية إن هما سوى مسميات اعتبارية على حالات ومشاعر وأحداث تكتنف وجود الإنسان ليس إلا، وخير دليل على ذلك هو أن “عرقول” الطفل الذي عاد إلى ابنته “دوران” الذي يبدو بهيئة الطفل المقدس إن هو سوى “عرقول” الملعون في حياة سابقة، والحال ذاته ينطبق على والدة “دوران” التي كانت تبدو أمام ابنتها أما ملعونة وتبين حالها لاحقا أنها إنسانه مقدسة وفي قمة التضحية والتفاني من أجل ابنتها “دوران” والتي كانت تتحمل أشنع الوصف مقابل تامين حياة ومستقبل أفضل لابنتها.

مالذي أضافتة الرواية وما هو جديدها:

يمثل هذا النهج في الكتابة تربية الإنسان وترغيبه وتحفيزه وتشجيعه وتنميته ودفعه للشعور بمسؤولية أشمل فمن يهضم فكرة الرواية هضماً صحيحاً سوف تفتح لها آفاق معرفية وتتسع كينونته ليحب كل شيء كنفسه ويتقبل كل شيء كنفسه ويعالج كل شيء برق وهدوء وسلام كما يعالج نفسه ، إن كل شيء في هذا الوجوء يسير إلى كماله وتكامله ماعدا ذلك الإنسان الذي ارتضى لنفسه الإنفصال والعيش في طبيعة بشرية تقدس ماينسجم مع هواها وتلعن كل ما هو مختلف عنها ومتضاد مع وجهاتها.

تقييم للرواية وللكاتب :

1-لقد نجح الكاتب في كسر الرتابة والمألوف في انتقاء الموضوع الذي كتب عنه وكان يمرر فكرته بذكاء منقطع النظير من خلال أسلوب تدريجي تراكمي بحيث لايمكن الجزم بحقيقة مراد الكاتب مالم تُقرأ الرواية من الكلمة الأولى حتى الكلمة الأخيرة منها.

2-لقد كانت أحداث الرواية تنتقل بين اتجاهين: الأول بما هو متعلق “بعرقول” وزوج أخته المنتحل صفة صديقة “سمير” كذلك مع “نوس” وأما الاتجاه الثاني فهو الاتجاه الخاص “بدوران” و”إينويا” و”كندور” و”داني” وفي نهاية المطاف تلتقي الإتجاهات وينعدم ذلك التشظي والتعدد عند بلوغهم نقطة التقديس فيلتقي “عرقول” الطفل مجدداً مع ابنته في نقطة التقديس وبذلك تتجلى لنا ماهية اللعنة والمتمثلة بالانفصال والتشظي والاستقلال عن الكون والوجود، كذلك تتجلى لنا ماهية التقديس والمتمثلة بنقطة الالتقاء والانسجام وعودة كل الأجزاء المنفصلة والمتشظية إلى نسيجها وطبيعتها الواحدة الشاملة الغنية بكل لوازم خلودها.

About The Author

Previous post

منتدى ثورة قلم -هيئة منصة ثقافة انسانية-غرفة النقد-ناقدوكاتب(ح5)-رواية الملعون المقدس للكاتب د. محمد اقبال حرب. تقديم الناقدة الاستاذة سهيلة حماد

Next post

الأنساق البنيوية والثقافية المكوّنة لرواية (الملعون المقدّس) للروائي اللبناني محمد إقبال حرب/لبنان . بقلم الناقد منذر فالح غزالي/سوريا-المانيا

Contact