×

الجمالية السّرديّة، وتنوّع الوصف في المجموعة القصصيّة (الريح تَكنُسُ أوراق الخريف) للكاتب السوري المغترب منذر فالح الغزالي. بقلم الأديبة الناقدة سمر أبو السعود الديك سوريا /فرنسا

الجمالية السّرديّة، وتنوّع الوصف في المجموعة القصصيّة (الريح تَكنُسُ أوراق الخريف) للكاتب السوري المغترب منذر فالح الغزالي. بقلم الأديبة الناقدة سمر أبو السعود الديك سوريا /فرنسا

الجمالية السّرديّة، وتنوّع الوصف في المجموعة القصصيّة (الريح تَكنُسُ أوراق الخريف) للكاتب السوري المغترب منذر فالح الغزالي.

بقلم الأديبة الناقدة سمر أبو السعود الديك سوريا /فرنسا

مدخل:

نحنُ أمام كاتب سوري الجنسيّة عايش أحداث الربيع العربي في البلدان العربية التي كانت نتائجها وخيمةً على الشعوب العربية وهو المغترب في ألمانيا يعيش في المهجر، بسبب السلطة الغاشمة، والقهر، والاستبداد، وكان قد صدر له سابقاًرواية (الربيع يأتي متأخراً) حيثُ انحاز الكاتبُ إلى جانب الإنسان ضد السلطة بكل أنواعها، وها نحنُ الآن نتدارسُ مجموعته القصصيّة (الريح تكنس أوراق الخريف) حيث نجد العنوان يشكّلُ عنصراً هاماً من عناصر تشكيل تلك المجموعة وهذا العنوان يثيرُ الدهشة ويُحيلنا إلى المضمون المستتر تحت هذا العنوان، وقد يكون هويةً له، أو بؤرةً من بؤره، أو مفتاحاً من مفاتيحه.

السرد والوصف في المجموعة القصصيّة:

أولاً- لابدّ من التمييز بين عنصرين هامين في أية قصة هما السرد والوصف فالسرد يتناول التغييرات الملحوظة في الشخصيات، والمواقف، والظروف المحيطة، أمّا الوصف فيتناولُ الأمورَ التي لاتتغير، أو التي يطرأ عليها تغيير طفيف، ومع ذلك فالوصفُ والسرد وجهان لكيان القصة، وهما مثل الرّوح والجسد في الكيان الإنساني كمايقولُ (أنريكي أندرسون إمبرت)، ويجبُ أن نميّز بين نوعين من المسرودات الأول يأتي للتسليّة فقط كالقصص البوليسية، والسِيَر الشعبيّة، والنوع الثاني مسرودات تُولّدُ إمكانات للتفسير متعددة وهذه المجموعة القصصيّة مثالٌ على النوع الأخير من المسرودات، وهدفُ السرد هو صنعُ حبكةٍ، والحبكة هي سرُ السرد، وعموده الفقري والسرد التخييلي يُفضي إلى معنى أو أكثر، وأنّ الحوارَ الذي يُشكّلُ جزءاً من السرد له وظائفُ متعددة فهو يُنظمُ الحبكة، ويُكشفُ عن الشخصية، ويشرح الوقائع، ويصف الملامح، ويثيرُ فضول القارئ؛ وقد قامت معظم قصص تلك المجموعة على الحوار الذي يُشكّل جزءاً من بنيتها.

لقد سيطر الكاتبُ على دفة الأحداث حيث الصراع بين الرّوح والعقل في قصته (موعد) كما جاء على لسان طارق صديق الشخصيّة الرئيسية في القصة وهو يرى الصدمة على وجه زميله “وهل تَظنُ أنّ الدخولَ إلى هذه الأماكن بالمجان؟”، كما جاءت الأحداث في معظم قصصه على لسان الشخصيات بصيغة الغائب كما في قصة(اعتياد): “صحاالساعة السادسة مثل كلّ يومٍ، فكّرَ وهو في غبش النعاس أنّه سيتوجه إلى المطبخ يتثاءب، ويحكُّ مُؤخرته مثل كل يوم…” حيث جاء وصفه للشخصيّة سرداً أقربُ إلى السيرة الذاتية غيرَ أنّه تذكّر بعد أن زال عنه النعاس أنّ جسدَهُ مثبتٌ بالجبس وأنّ القذيفةَ التي استهدفتهُ قدْ قتلتْ جارتَهُ الجميلة.

كذلك نجد استخدامه لضمير الغائب في وصفه للشخصيات وسير الأحداث في قصة موعد، مناسبة، غمزة، الشيطان ثالثنا، المرأة التي علّمتني؛ حيث يسيطر ضميرُ الغائب على السرد منذ بداية القصة؛ فتبدو كأنّها سيرةٌ ذاتية ويتضحُ بعدها للقارئ أنّ الكاتب منذر الغزالي يُعبّرُ عن مشاعره، وأحاسيسه ومخزونه الأخلاقي، والمجتمعي؛ مبرّراً ومحاولاً أنْ يخرجَ نفسه من قوقعة المجتمع المتخلف الذي لايحتمل عقله أن يجمعَ بين حرية المرأة وشرفها وهذا أشارإليه في قصته موعد حيث فُوجئ بها في جو لايتناسب مع عاداته الشرقية “بدلَ العطر كان يفوحُ من الشّقة، رائحة عُفونة، ودخانٌ، وسجائر؛ وبدل الموسيقا سمعَ ضحكةً فاجرةً تنطلقُ من خلفِ أحدِ الأبواب” ارتبك وعرف انّها تبيعُ جسدَها مقابل بضعة من النقود، وهكذا داسَ على مشاعره تمسكاً بموروثه الثقافي، والاجتماعي، والأخلاقي، بينما نجدُ الكاتب يسوقُ لنا الأحداثَ باستخدام ضمير المتكلم في قصة واحدة فقط (شاب الهوى) من تلك المجموعة جاء في الصفحة39: “أخيراً بعتُ السيارة… من جديدٍ عدتُ إلى صراع الذهاب، والإياب بالميكروباص”.

ننتقلُ الآن إلى الشخصيّة القصصيّة فهي عنصرٌ سرديٌّ بامتياز من حيث طريقة تقديمها، ووصف بعض ملامحها بشكل موجز ، ومُكثف، ومن حيثُ انطاقها ببعض العبارات الكاشفة عن أعماقها، وسلوكها، وطباعها وتلك الشخصيّة مما برع فيه الكاتب منذر فالح الغزالي في قصصه عامة فقد وصفَ شخصية أحمد جابر عبد الحق في قصة (غمزة) مُستخدماً الوصف بالحوار تارة، وبالحدث تارةًأخرى، مُستعيناً باللغة السردية، والبلاغية. فأحمد جابر عبد الحق موظف الحسابات من الدرجة الثانية في مؤسسة التبغ جاء من قرية بعيدة صدمته المدينة من حيث الفجوة الحضارية بين قريته وهذه المدينة الكبيرة ونجد في حواره مع زميلته هيفاء في العمل رصداً للشخصيات التي تحكمها مجموعة من الروابط السرديةالاجتماعية: “تفضلْ أستاذ أحمد،وضعتْ الفنجان فوق طاولته… أردف أحمد قائلاً: تسلمْ يداكِ. يتابع بحوارٍ داخلي بينه ونفسه: “شهورٌ وأنا أحلمُ بكلمةٍ منها، وحين تحقق الحلم وبهذا القرب والعذوبة رفسْتُهُ كالحمار” حيث نلمس ثقافة الكاتب ومخزونه المعرفي من خلال تحيته إلى روح الكاتب العظيم (أنطون تشيخوف) كأنّ لسان حاله يردد مقولته الشهيرة :”عندما لايعيشُ المرءُ حياةً واقعيةً جيدةً يبدأُ في خلقِ عالمٍ وهميٍّ بداخل عقله”.

لقد نجح الكاتبُ بالإيجاز الشديد، والتكثيف الواضح، والاقتصاد في اللغة، والخبرة المميّزة في اختيار المفردة الدّالة، وصنع القفلة المحكمة حيث فضح أداء سلطة غاشمة تقيّد من حرية الرأي السياسي في قصة (الريح تّكنُسُ أوراق الخريف) كما جاء على لسان نادر: “السجنُ السياسي جريمة، والسلطة التي تمارس السجن السياسي مُدانة… أنا أُدينُ سجّانه”، وقد استعان الكاتب بحواراته بين ليلى وحبيبها نزار وصديقها نادر بمعارفه ومنابع ثقافته متعددة المشارب، جاء في الصفحة54: “نزار حبيبي يكفي أن نكتبَ الكتاب…” ردّ نزار باستغراب: “متى كانت الورقة تُحدد علاقة أو تنهي علاقة… أنا طريقي صعبٌ، أنا نذرتُ نفسي لقضايا كبيرة قد لاتسمحُ لكِ أن تعيشي متعة الحبّ التي تنتظرينها)، وهنا شعرت بالخيبة وتذكرتْ كلام صديقها نادر عن نزار: “لايكفي الإنسان أنْ يدخلَ المعتقل حتى يصبحَ نقيّاً، السجنُ ليس بالضرورة صكّ طهارة، والاحتفال بذكرى السجن هو تعويضٌ عن الفشل في تحقيق أيّ هدفٍ حقيقي… السقوطُ يبدأُ عندما يشعرُ مُدَّعو النضال أنّهم أدّوا ماعليهم وانتهى واجبهم، ويلتفتون إلى تحقيق أمجادهم الشخصية لبناء ديموقراطية كاذبة).

في الحقيقة لم يقتصر الكاتب في نقده على الفرد دون المجتمع؛ بل تجاوز ذلك إلى التنديد بالظرف المُحدق، والمناخ المهيمن اللذين يفضيان إلى ندم الإنسان وهذا تجلّى واضحاً بقصة (مناسبة) في شخصية زوج سلوى المدرّس الذي اشترى بالقسط سيارة مستعملة كي يشتغلَ عليها بعد الدوام ويتعرضُ في أحدِ المواقف إلى شتم شخصيّة هامة تُمثلُ الحكومة مما يضطره إلى الاعتذار من الشرطي، والحكومة، وتلك الشخصيّة وهذا ماجعلهُ يشتمُ نفسَهُ، والسيارة، والظروف التي جعلتْهُ يعمل عليها وقلبه يعتصره، شعورٌ عميق بالقهر، والذّل: “ماذا أفعلُ بالثقافة إذا كان ضيق الحال جعل النفس والرّوح ضيقة؛ حتى الطلاب صرتُ أشعرُ بالخجل منهم”.

الكاتب منذر فالح الغزالي كان شغوفاً بتكريس فكرة ٍ فحواها أنّ على الإنسان أن يصوغَ وجوده بانسجام لا أنْ يحيا التناقض في سلوكه الظاهري ، والصراع في عالمه الباطني، وقد ركّز على هذه الحقيقة الفلسفية، والنفسيّة من خلال تزوده بذخيرة فلسفية، معرفية شاسعة وثقافة فلسفية عميقة حيث عكس للقارئ آثار الديانة التاوية من خلال (اليين واليانغ) اللذين يمثلان الأسود، والأبيض، الموت والحياة، الظلام والنور، الفرح والحزن، توالي الليل والنهار ومرور الناس بمراحل متشابهة في قصة (المرأة التي علّمتني)؛ حيث عكس ذلك من خلال الحوار بين سليمان الحبيب مهندس الإلكترونيات المتقاعد وروز الرفاعي البولونيّة زوجة حمزة الرفاعي طبيب الأطفال التي تغيّبت طويلاً عن لقائه بسبب مرضها ووجودها في مستشفى الأورام: “المرضُ والموتُ في داخلنا ياسليمان، نحنُ نمرضُ أكثر إذا فكرنا بالمرض، ونموت أبكر إذا فكرنا بالموت كلّ شيء في داخلنا، الحبّ، الكره، الجرأة، والخوف… الله في داخلنا، والشيطان في داخلنا. هل تعرف دائرة اليانغ يونغ نحن مثل اليانغ واليونغ منقسمون في داخلنا بين أبيض وأسود نصفين متساويين لاينفصلان في دورانهما الأبدي…”.

أخيراً أستطيع القول إنّ الكاتب منذر فالح الغزالي في هذه المجموعة القصصيّة (الريح تكنس أوراق الخريف) وفي روايته السابقة (الربيع يأتي متأخراً) كان بارعاً في تحريك الأحداث بصورة سليمة موضحاً التشابه بين نتائج الثورات في البلدان العربية، وتحول الربيع العربي فيها إلى خريف عربي حيثُ الرّيحُ تكنسُ وتُبدد كلّ آمال الشعوب العربية التي تعاني من القهر والاستبداد، والظلم، في ظلّ السلطة الغاشمة فبعد موت روز في بداية آيار، والرّبيع في عزّه بقي سليمان الحبيب بطل القصة التي تعكس شخصية الكاتب سنواتٍ طويلة يشعرُ بالكآبة كلّما جاء الرّبيع.

——————-

About The Author

Contact