×

الفضاء وانفتاح الخطاب في “الرّيح تكنس أوراق الخريف”، للكاتب السّوري منذر فالح غزالي بقلم الناقدة زهرة خصخوصي

الفضاء وانفتاح الخطاب في “الرّيح تكنس أوراق الخريف”، للكاتب السّوري منذر فالح غزالي بقلم الناقدة زهرة خصخوصي

                  

                 الفضاء وانفتاح الخطاب في “الرّيح تكنس أوراق الخريف”، للكاتب السّوري منذر فالح غزالي

                                                      بقلم الناقدة زهرة خصخوصي

تصدير: «لا شيء خارج النص « دريدا

مقدّمة:

الكتابة والنّسق، الكتابة والذّات، الكتابة والمرجع، الكتابة والتّلقّي، تلك إشكاليّات هويّة النّصّ الإبداعيّ الحديث في كينونته الأدبيّة التي يشكّلها الكاتب حسب رؤية إبداعيّة لها أسسها ومقوّماتها الفنّيّة و الدّلاليّة المخصوصة، التي أنّى كان جموح التّجريب الحديث فيها، تظلّ تنشدّ إلى مدار نسق أدبيّ، تصطبغ بألوان الذّات أو بعضها، مسكونة بسلطة المرجعيّات وإملاءاتها، مفتونة بهاجس التّلقّي وآفاق انتظارات قراءة تحقّق لها التّعدّد و”الحياة”، تلك الرّؤية الإبداعيّة التي تفسح المجال رحبا أمام القارئ النّاقد ليمارس شراكته في العمايّة الإبداعيّة وصفا للنّصّ، ومساءلة لبناه الفنّيّة، وحفرا في بنيته العميقة، بحثا عن عوالمه الدّلاليّة الخبيئة، قارئا يتعدّد بتعدّد زوايا ولوجه درب مرافقته النّصّ ومحاورته.

من هنا تنبجس قراءتنا للمجموعة القصصيّة “الرّيح تكنس أوراق الخريف” للكاتب السّوريّ المعاصر منذر فالح الغزالي. وهي قراءة ارتأينا لها موضوعا “الفضاء وانفتاح الخطاب“، موضوعا يمثّل فيه عنصر الفضاء حمّالا للعلامات الدّالّة على الانفتاح، بما يرزح به كلّ من مفهوم الفضاء ومفهوم الانفتاح من معاني المغايرة، والاتّساع، والرّحابة ، التي تمكّن الباحث من الظّفر بمفاتيح دلالات الخطاب الأدبيّ المنشودة.

الفضاء مصطلحا نقديّا، ووجودا إبداعيّا:

الفضاء مصطلح نقديّ حديث، يعدّ من أهمّ المصطلحات التي تشتغل بها السّرديّات في نقد النّصّ. وهو يلتبس بمصطلح المكان، نظرا لدلالته المعجميّة الأولى على المكان الواسع من الأرض، لكنّه نقديّا، في فنّ الكتابة، هوأوسع من المكان، تتعدّد دلالاته، إذ يعني كلّ “حيّز” ( 1)غير جغرافيّ، فنجد فضاء البياض والسّواد على الصّفحة، والفضاء النّفسيّ، والفضاء الذّهنيّ، والفضاء الورقيّ (الكتب والصحف والمجلات…) وفضاء الذاكرة، وفضاء اللّغة، وغيرها…

لذلك يُعدّ البحث في الفضاء في النّصّ الأدبيّ آليّة من آليّات البحث في زاوية فنّيّة من زوايا الرّؤية الإبداعيّة للخطاب الأدبيّ في النّصّ، من أجل التّوسّل بها لتقفّي العوالم الدّلاليّة النّصّيّة الممكنة.

وفي المجموعة القصصيّة “الرّيح تكنس أوراق الخريف” التي نشتغل بها في هذه القراءة النّقديّة، يبين للقارئ زخم الفضاءات المختلفة التي تضطلع المقاطع السّرديّة، أو الوصفيّة، أو الحواريّة برسمها والكشف عنها. ولعلّنا نحصرها في ما يلي:

1ـ الفضاء الذّهنيّ:

يمتح النّقّاد هذا المصطلح من نظريّة الفضاءات الذّهنيّة في حقل اللّسانيّات العرفانيّة، وقد اصطنعه جيل فوكونييه Fauconnier انطلاقا من اعتبار اللّغة كونا من التّفاعلات الذّهنيّة والنّفسيّة، حمّالة للمشاعر والأفكار والانفعالات المضمرة إيجازا وتكثيفا، أو المعلنة إسهابا وتفصيلا.

ويبدو الفضاء الذّهنيّ جليّا في المجموعة القصصيّة “الرّيح تكنس أوراق الخريف”، منذ أولى القصص فيها، “اعتياد”، التي ارتأى الكاتب منذر غزالي أن يجعل بناءها السّرديّ متأسّسا على جمل ثلاث تمثّل مراحل القصّة، أي بدايتها، ووسطها المتأزّم، ونهايتها.

البداية: صحا السّاعة السّادسة مثل كلّ يوم. (2)

النّهاية: غير أنّه تذكّر بعد أن زال عنه النّعاس، أنّ جسده مثبّت بالجبس، وأنّ القذيفة التي استهدفته، قد قتلت جارته الجميلة.(3)

وسط القصّة: جملة تمتدّ على الصّفحتين التّاسعة والعاشرة، أسّها الفعل “فكّر” الذي منه تتناسل المتمّمات النّحويّة أفكارا متخيّلة، تمثّل فضاء ذهنيّا لعالم سرديّ تبنيه الذّات في لحظة منفلتة من عقال النّوم، إلى تخوم اليقظة، “وهو في غبش النّعاس”(4)، عالم منشود في المستقبل القريب يصله بالحاضر حرف السّين (سيتوجّه إلى المطبخ، سيرفع السّتارة، سيشرب قهوته، سينظر إلى الحياة النّاهضة في الحيّ الفقير، سيضحك، سيعُدّ، سيتأكّد قبل أن يغلق النّافذة أنّ جارته الجميلة تخرج من البناء المجاور، وأنّها ستنتظره عند موقف الباص، سيشتمّ رائحة عطرها اللّطيف، ستأكله اللّهفة، سينظر في عينيها… وأنّ مديره سيؤنّبه على تأخّره، وسيردّ عليه بامتعاض صامت…) (5).

تتالى الافعال المتخيّلة والكاتب يؤكّد بتكراره عبارة “مثل كلّ يوم”، تواترها الرّتيب في حياته، خالقا فضاء من الحلم الرّهيف يتهاوى على عتبات لحظة تذكّر الواقع الذي يتكشّف له وللقارئ موجعا جدّا.

يغرق البطل في عالم متخيّل رهيف، ومعه يغرق القارئ في فضاء ذهنيّ نفسيّ شفيف، يكشف ملامح عوالم دلاليّة كامنةً في هذا الخطاب السّرديّ القصير.

ولئن انبنت قصّة “اعتياد” على لحظة متخيّلة تنشئ الفضاء الذّهني فيها، فإنّ هذا الفضاء بدا مبثوثا في أرجاء السّرد، في قصّة “موعد”، في وجود متعارض مع فضاء قيميّ واقعيّ مضمّخ بالتّهاوي والانحدار.

فقد شاء الرّاوي وهو يقفو خطى البطل نحو بيت حبيبته أن يضع القارئ في فضاء ذهنيّ وجدانيّ أسّه جُمل سرديّة عمادها الفعل “تخيّل” (وهاهو في طريقه إليها، يتخيّل كيف سيدخل بيتها، تستقبله عند الباب، بثوب جميل، وعطر عذب، وتقوده، عبر الممرّ، إلى الصّالة المضاءة بأنوار خافتة، تنبعث، من مكان ما منها، موسيقا هادئة[…] ويتخيّل أيضا، كيف سيقدّم لها باقة الورد الكبيرةَ، وكيف ستضعها في مزهريّة، على منضدة صغيرة، فرحة بذوقه[…] وتخيّل أنّه سيعترف لها، أنّه أحبّها منذ أن رآها أوّل مرّة[…] وعادت خيالاته الهائمة ترسم لحظات اللّقاء القريبةَ… سيجلس قربها على الدّيوان، وسيستمعان إلى الموسيقا بوله[…] وسيتناول ذراعها البيضاء ويدعوها للرّقص)(6).

وهو فضاء ذهنيّ يختزله الرّاوي في بارقة سرديّة بقوله “وأغمض عينيه على الصّورة المدهشة”(7)، فينغلق المدى المتخيّل على رهافته قبل أن يتهاوى كسيرا أمام الواقع المناقض إيّاه، والبطل يلفي حبيبته

مومسا ” تجلس بمبذل خفيف يكشف صدرها وجزءا كبيرا من نهديها المكتنزتين، مع امرأتين، إحداهما شابّة صغيرة، والأخرى تغطّي وجهَها طبقة سميكة من الأصباغ، تبدو في الخمسينيّات؛ وبدل العطر كان يفوح من الشّقّة رائحة عفونة ودخان سجائرَ، وبدل الموسيقا سمع ضحكة فاجرة تنطلق من خلف أحد الأبواب.”

فجأة يلفي القارئ نفسه خارج فضاء ذهنيّ حمّال لمسار سرديّ حالم، رهيف، يعبق بشذى الرّوح العذب، يهمس بعالم مفقود منشود، ليتلقّفه مسار سرديّ آخر مناقض، هوعالمُ سائدٍ موجودٍ، يزعق بقبح الواقع الذي يرسم الكاتب وجها من وجوهه المتراكمة في الذّاكرة، المنبجسة منها “مُتخيَّلا” (8) يعرض المرجعَ دون أن يماثله.

هكذا يرسم الكاتب في هذين النّصّين القصصيّين للأحداث فضاءات ذهنيّة نفسيّة وجدانيّة عمادها تخيّل الشّخصيّات لمسارات سرديّة عذبة تناقض الواقع وتتكسّر أجنحتها على عتباته، وكأنّه يهمس للقارئ أن لا جمال ولا عذوبة ولا رهافة إلّا في أفضية الخيال والحلم والوهم أحيانا.

2ـ فضاء الصّورة:

تشكّل الصّورة الفوتوغرافيّة في قصة “مناسبة خاصة” فضاء آخر يحتوي مرحلة مفصليّة من مفاصل السّرد، هي تلك الأحداث القادحة لانفراج الأزمة وانتهاء الصّراع إلى تآلف بين الشّخصيّتين، سلوى وزوجها، الذين تحوّلت ذكرى زواجهما العشرين النّاعمة إلى صخب وعراك وصفع ونشيج.

فجأة تقع صور في يد الزّوجة المهتاجة وجعا وحنقا، فتخمد تلك المحارق فيها، ويزهر الحبّ في فؤاده من جديد، وتستأنف ذكرى الزّواج مسارها الرّومنسيّ النّاعم : “الصّور تترى؛ صور خطوبتها، وزواجها… في البيت، في الشّارع، في الحديقة… في كلّ مكان صورة، ومع كلّ صورة ذكرى غالية.” (9)، هي صور تتفضّى لأطوار حكاية حبّ زرعت في العائلة فرحا خصيبا، على مدى زمن من عمر هذا الزّواج، فتمثّل فضاء يحوي أحداث ما قبل الأزمة في النّصّ، ويفضي إلى أحداث ما بعد تلك الأزمة، التي تنبجس من تنهدة تمحو عوالق آهات الوجع السّابق: “تنهّدت بأسى صادق، لقد هدأت نفسها، ذلك السّيل الجارف وصل إلى مصبّه[…] الماء العكر بدأ يرقّ ويشفّ[…] نظرت في المرآة، تناولت منديلا، مسحت الدّموع، وأعادت إصلاح زينتها،أخرجت قميص النّوم السّتان الأحمر من الخزانة… رشّت قليلا من العطر، أدارت المفتاح بهدوء وجلست على حافة السّرير تنتظر دخوله”(10).

من خلال هذه الأمثلة، يبين للقارئ أنّ الصّورة الفوتوغرافيّة، في هذا النّصّ، تنزاح عن وجودها المادّيّ المألوف، الذي يؤثّث المكان الضّيّق، ويثري مدى الوصف، إلى وجود فنّيّ جديد تتّخذ فيه وظيفة الفضاء  الذي يرحب امتدادا سرديّا وانفتاحا دلاليّا، لتكشف بهذا الانزياح، عن رؤية مخصوصة للوجود النّصّيّ كتابة وتلقّيا، يرسم الكاتب ملامحها، عن وعي، أو عن غير وعي، لتصدح بأنّ كلّ مكوّن من مكوّنات النّصّ هو أسّ من أسس الدّلالة، وأنّ النّصّ يمتلئ بما في داخله، ليفيض على خارجه بمفاتيح قراءة تختلف من قارئ إلى آخر، وبها ينفتح على عوالم وجود مختلفة انفتاحا يحقّق لفعل الكتابة معانيه الجديدة التي يمتحها من جريان حركة الحداثة الأدبيّة التي لا تهدأ.

3ـ فضاء اللّغة:

مع الحداثة اللّسانيّة والأدبيّة صارت اللّغة تتجاوز وظيفتها التّواصليّة التّعبيريّة الأولى، لتضطلع بوظائف أخرى تستدعيها إنشائيّة الخطاب السّردي. ونلفيها في مواضع من هذه المجموعة القصصيّة، محور اهتمامنا في هذه المقاربة النّقديّة، تتفضّى للقول النّقديّ الأدبيّ، وللقول السّياسيّ، وللقول الفكريّ الاجتماعيّ.

فالكاتب يستهلّ قصّته “غمزة”، قبل أن يُسلّم  الرّاوي دفّة السّرد، بخطاب موجز يوجّهه إلى الكاتب الرّوسيّ أنطون تشيخوف، مفاده:”تحيّة إلى روح الكاتب العظيم (أنطون تشيخوف) ” (11). هذا الخطاب الموجز المتحقَّق بجملة مختزَلة نحويّا، يشكّل فضاء حاويا خطابا نقديّا يحتفي بقيمة هذا الكاتب الرّوسيّ، ومسار كتاباته الواقعيّ، ودوره في الوجود القصصيّ العالميّ، وهو في الآن نفسه (أي الخطاب) يتفضّى لقول في الرّؤية الإبداعيّة الذّاتيّة للكاتب منذر غزالي، التي تمتح علاماتها الدّالّة من تجربة تشيخوف الأدبيّة. فتتّسع اللّغة بتفضّيها هذا لتتجاوز حدود الجملة المختزلة إلى دوافق قول، للقارئ أن يتأوّلها وينتجها، في نصّ تفاعليّ مع القصّ، ينبني فيه الخطاب على الخطاب مرافقة ومحاورة ومحاججة أيضا.

أمّا في قصّة “الريح تكنس أوراق الخريف” فنلفي اللّغة حمّالة خطاب فكريّ اجتماعيّ، تتفضّى لتنقل إلى القارئ سمات فكر علمانيّ يتحرّر من مفهوم الحبّ السّائد في الأعراف والتّقاليد ويبني مؤسّسته القيميّة المعارضة المناقضة.

يقول نزار:” أنت تحبّينني، وأنا كذلك؛ لكنّ الحبّ لا يكون كاملا إلّا إذا حصل توافق بين الطّرفين، عاطفيّا، وعقليّا، وجسديّا”(2)، وهو قول يقطع مع مفهوم الحبّ العذريّ، ومع مفهوم قداسة عذريّة الفتاة اجتماعيّا، وفيه تشكّل اللّغة فضاء يتّسع للكشف عن قيم اجتماعيّة دخيلة على المجتمع العربيّ التّقليديّ، منبعها مفهوم مخصوص للحداثة يتنكّر لسلطة كلّ سائد. 

ولا ينغلق الفضاء اللّغويّ في هذه القصّة على الخطاب الفكريّ الاجتماعيّ، بل نجده يتّسع لخطاب آخر سياسيّ، يختزله قول الشّخصيّة نادر:” لا يكفي الإنسانَ أن يدخل المعتقل، حتّى يصبح نقيّا”(12)، تتفضّى فيه اللّغة لسرد تاريخ عربيّ سياسيّ جائر تمثّل المعتقلات والسّجون فيه أقفاصا لترويض المعارضين وتدجينهم ليتحوّلوا إلى زمرة من الخونة لمبادئهم وأفكارهم، يدنّسون نقاءهم بدل تطهّرهم بتلك المعاناة. فيتغيّر في فضاء اللّغة هذا، مفهوم التّطهّر، ويضحي أرحب من تجربة المعاناة الجسديّة، فلسفة وجود تضاهي تجربة الصّفاء الصّوفيّة،  تجربة الألم الرّوحيّ التي في كنفها ترقّ الرّوح، ترقّ، ترقّ فترقى، تجربة عشق متوهّج تنزاح بمفهوم القيد عمّا هو مادّيّ، وبمفهوم النّقاء عمّا هو سائد.

والقارئ وهو يستجلي تفضّي اللّغة لمقولات النّقد والأدب والسّياسة والقيم الحداثيّة، ينشئ عوالم تلقّيه النّصّ المنبنية على أسس سؤال الرّؤية الإبداعيّة القصصيّة، وسؤال الكتابة واللّغة، وسؤال الكتابة والمرجعيّات، وهي أسئلة النّقد والتّجريب الأدبيّ الحديث، فتمسي عوالم التّلقّي تلك، بدورها فضاءات لغويّة تسع مقولات أخرى في الكتابة التّحليليّة والتّأويليّة والنّقديّة.

فضاء الذّاكرة:

يتنوّع هذا الفضاء في المجموعة القصصيّة “الرّيح تكنس أوراق الخريف”، فهو فضاء الذّاكرة الذّاتيّة العاطفيّة، وفضاء الذّاكرة الفنّيّة، وفي تنوّعه اختلاف الوظائف التي يضطلع بها في مسار فعل الكتابة السّرديّة.

ففي قصّة “والشّيطان ثالثنا” نلفي الذّاكرة فضاءً للعاطفة الذّاتيّة، فضاءً ينقل حكاية الحبّ الأوّل أحداثا وحوارات، يتقاسم سردها كلّ من بطل القصة يوسف( من الصفحة72 إلى الصّفحة81)، وراويها الخفيّ(من الصفحة81 إلى الصفحة 93)، فضاءً يفضي إلى تغيير في صورة البطل يوسف نفسيّا، يكشفه قول يوسف:”لكنّ الذّكريات القديمة، حين تهجم فجأة… تترك أثرها في النّفس”(13)

ثمّ نلفي فضاء الذّاكرة، فضاء يفضي إلى مسار سرديّ ينذر بالتّأزّم والصّراع، تتخلخل فيه الأسس الأولى للعلاقة بين شخصيّتي الزّوجين، يكشفه قول الرّاوي: “تقطع زوجته شروده الطّويل، تحدّثه، وآثار الغيرة ـ وربّما الامتعاض ـ تبدو على وجهها…”(14).

وفي تعدّد وظائف فضاء الذّاكرة في السّرد، يظفر القارئ بعلامات دالّة على حداثة تجريبيّة في النّصّ، رغم نزعته الواقعيّة الجليّة، تفتح الباب أمامه رحبا لفعل الاستقراء والتّأويل لتشكيل نصّه النّقديّ المخصوص.

أمّا في قصّة ” شاب الهوى” فيوظّف الكاتب فضاء الذّاكرة الفنّيّة توظيفا جديدا مختلفا، يضطلع العنوان بمهمّة الإبانة عنه، هذا العنوان الذي ينبني على تناص مع أغنية وديع الصّافي، للأخوين الرّحباني، تناصّ متمثّلٍ في استدعاء عنوان الأغنية،عنوانا، ليكونبذلك  فضاء ذاكرة زاخرة بتراكمات فنّيّة لغة ودلالات ثاوية في تلك الأغنية السّاكنة الذّاكرة العربيّة جمعاء، التي لم يغفل الكاتب عن الإشارة إليها في عتبة الهامش: “شاب الهوى وشبنا     وبعدن حبايبنا

 وبَعدو العَتب داير     لا تعب ولا تعبنا”

وفي هذا العنوان  يتحوّل التّناصّ من مجرّد استحضار بعض العلامات الثّقافيّة المختزَنة في الذّاكرة، عن وعي أو عن غير وعي، في النّصّ الإبداعيّ، إلى  استدعاء واع للنّصّ الثّقافيّ مكتملا لغة ودلالات، فتضحي الذّاكرة الفنّيّة فضاء منه ينبجس فعل القصّ، وفيه يتشكّل فعل القراءة المسائلة المحاورة المؤوّلة، فضاءً للكتابة وفضاءً للنّقد، يجتمعان أسّين ركيزين للعمليّة الإبداعيّة، وينفتح النّصّ الأدبيّ الذّاتيّ على الذّاكرة الجماعيّة، وعلى النّصّ الفنّيّ، وتتماهى السّياقات الحافّة بالنّصّين ، ويصدح الكاتب في المتلقّي أنّ فنون الإبداع العربيّة مختلفة لكنّ الهمّ المرجعيّ الكامن فيها واحد مشترك.

فضاء االثّقافة:

هما فضاءان ثقافيّان مختلفان متقابلان يسكنان قصّة “المرأة التي علّمتني”، فضاء ثقافيّ غربيّ ترسمه شخصيّة روز، وفضاء ثقافيّ عربيّ ترسمه شخصيّة سليمان، راوي القصّة، يضطلعان بمهمّة تأكيد البَوْن الشّاسع بين التّحضّر الفكريّ الغربيّ، والجمود الفكريّ العربيّ، عبر جملة من الأطروحات المتعلّقة بالحياة والموت والجمال، لا يخفى على القارئ انتصار الرّاوي حجاجيّا، ولعلّ الكاتب من خلفه، إلى الأطروحات

التي تعرضها شخصيّة روزا، يُجلي لنا انتصارهذا تقديمه شخصيّة سليمان في صورة السّلبيّ، العاجز،

اليائس، الخلو من ملامح إستراتيجيّة لنحت وجود الذّات المخصوص. وهو ما يبرز من خلال الأمثلة التّالية:

ملفوظات سليمانملفوظات روز
ص102 “ما نفع الحياة إذا كان كلّ شيء فيها مزيّف؟”   ص103 “لا شيء حقيقيّ… أين هي الحقيقة؟”   ص116 “الطّبيعة البكر، كما هي… النّاس عندنا أكثر شاعريّة منكم”ص102 “ما دمنا نحيا فعلينا أن نقاوم الموت”   ص103 “تسأل عن الحقيقة؟ هل تتوقّع أن يأتيك أحد بعلبة مغلّفة ويقول لك افتحها وستجد الحقيقة في داخلها؟ الحقيقة تحيط بنا، تكمن في كلّ شيء”   ص116 “الطبيعة البكر ! الشّاعريّة ! ماذا سينقص من شاعريّة المكان، لو أنّ جهة ما استثمرت هذه الطّبيعة في مشروع سياحيّ؟”  

تُبين هذه الأمثلة عن تعارض فكريّ بين الشّخصيّة يبدو صورة مصغّرة لذاك التّعارض بين الثّقافتين العربيّة المتخلّفة الغرقة في الانكسار، والغربيّة المتحضّرة المباهية بالانتصار. ويرتسم للقارئ من خلالها، ومن خلال أمثلة أخرى متساوقة معها، فضاء ثقافيّ نصّيّ تتحاور فيه الفكر وتتحاجّ فيه الآراء، وتتزاحم فيه العوالم الدّلاليّة، وتتعدّد فيه العلامات الدّالّة على انفتاح النّصّ الأدبيّ على التّفكير الفلسفيّ، وعلى الرّؤى الوجوديّة، وعلى جدليّة الوجود العربيّ الغربيّ الحديث، انفتاحا يؤكّد أنّ الدّاخل النّصّيّ أرحب من الأبنية الفنّيّة والمعاني النّصّيّة، متّسع دلاليّا، لعوالم تتقاطع معه، تفضي إلى تشكّله، أو منه تمتح وجودها النّقديّ، وأخرى توازيه، يعارضها أو يقوّض بنيانها لينشئ بنيانا آخر جديدا، وعوالم تتماهى معه عبر تناصّات شتّى.

هذا الفضاء الثّقافيّ يتعاضد مع الفضاءات الأخرى؛ الفضاء الذّهنيّ، فضاء الذّاكرة، فضاء الصّورة، والفضاء اللّغويّ، لتبني مجتمعة، للخطاب القصصيّ في مجموعة “الرّيح تكنس أوراق الخريف، إستراتيجيّات (15) مخصوصة ترسم ملامح انفتاح النّصّ على سياقاته المرجعيّة الاجتماعيّة، والسّياسيّة، والثّقافيّة، والأدبيّة، والنّقديّة، وانفتاحه على  رؤى القرّاء التّأويليّة لعوالمه الدّلاليّة الممكنة، وبالتّالي انفتاحه على الوجود النّقديّ المنفتح بدوره على التّعدّد مقارباتٍ ومناهجَ ممكنةً، تعدّدا به يحيا فعل الكتابة الأدبيّة.

خاتمة:

“الرّيح تكنس أوراق الخريف” مجموعة قصصيّة للكاتب منذر فالح الغزالي، يلجها القارئ مفتونا بإيحاء رومنسيّ توحي به عتبة العنوان، فيلفي نفسه مفتونا بتشكيل عجيب لعنصر الفضاء، تنوّعا وتعدّدا في الوظائف، يسم النّصّ بانفتاح رحب على كلّ ما يقبع خارجه من أنساق أدبيّة، وسياقات مرجعيّة، ومقاربات نقديّة ممكنة، تمتح وجودها من العلامات الدّالّة داخله، ومن نظريّتي الخطاب والتّلقّي الحديثتين، وهو ما يجعل نصوص هذه المجموعة القصصيّة مسكونة بالمخاتلة التي تغوي القارئ بمغامرة المرافقة، والسّؤال.

                                                                                 زهرة خصخوصي، تونس، أوت 2021.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامش:

1ـ الحيّز مصطلح اصطنعه عبد الملك مرتاض مرادفا لمصطلح الفضاء.

2ـ منذر فالح الغزالي، الرّيح تكنس أوراق الخريف، السّويد، دار ميزر للنّشر والتّوزيع، ط1، 2021، ص9.

3ـ المصدر نفسه، ص10.

4ـ المصدر نفسه، ص9.

5ـ المصدر نفسه، ص11ـ 12ـ 13ـ 14.

6ـ المصدر نفسه، ص14.

7ـ  يمنى العيد، في معرفة النّصّ، بيروت، دار الآفاق العربيّة، ط3، 1985، ص13، “الذّاكرة، التي هي ذاكرة الفرد، هي ذاكرة الواقع المادّيّ الاجتماعيّ فيه. إنّها نهوض هذا الواقع إلى مستوى عالمه في الذّاكرة. إنّها تخيّله ومتخيّله…”

8ـ منذر فالح الغزالي، الرّيح تكنس أوراق الخريف، صص24 ـ 25.

9ـ المصدر نفسه، صص 28ـ 29.

10ـ م ن، ص31.

11ـ م ن، ص61.

12ـ م ن، ص65.

13ـ م ن، صص 73ـ 74.

14ـ م ن، ص84.

15ـ إستراتيجية الخطاب: تعني خطّة تشكيل نسيج الخطاب الدّلاليّ التي يستنبطها القارئ. وهي “تفكير وتمشّ” (منية عبيدي، التّحليل النّقديّ للخطاب، نماذج من الخطاب الإعلاميّ، عمّان، دار كنوز المعرفة للنّشر والتّوزيع، ط1، 2016، ص26.)  لذلك تتكشّف أثناء فعل التّلقّي من خلال لغة الخطاب وأساليبه. إنّها تتجافى وعفو الكلام الذي يسير بصاحبه  على غير منهج. وعلى هذا الأساس تتعدّد الإستراتيجيّات لتعدّد ظروف انعقاد الخطاب، وهي متغيّرة باستمرار بتغيّر المتلقّي.

About The Author

Previous post

الحلقة السادسة من ناقد وكاتب دراسة نقدية للناقدة زهرة خصخوصي عن المجموعة القصصية” الريح تكنس اوراق الخريف” للروائي منذر غزالي بعنوان “الفضاء وانفتاح الخطاب في “الرّيح تكنس أوراق الخريف”

Next post

الجمالية السّرديّة، وتنوّع الوصف في المجموعة القصصيّة (الريح تَكنُسُ أوراق الخريف) للكاتب السوري المغترب منذر فالح الغزالي. بقلم الأديبة الناقدة سمر أبو السعود الديك سوريا /فرنسا

Contact