×

الحفر بالصورة – الاستعارة في قصيدة (عمر ينوء) للشاعرة السورية المغتربة: سمر الديك بقلم: الناقد منذر فالح الغزالي

الحفر بالصورة – الاستعارة في قصيدة (عمر ينوء) للشاعرة السورية المغتربة: سمر الديك بقلم: الناقد منذر فالح الغزالي

الحفر بالصورة

الاستعارة في قصيدة عمر ينوء للشاعرة السورية المغتربة: سمر الديك

بقلم: منذر فالح الغزالي

النص، للشاعرة: سمر الديك 

عمرٌ ينوء

عنيدٌ أنتَ يا ليلي

رياحُكَ شمالية ٌ حزينة ٌ

لبستْ أرديةَ العتمةِ وسرَقَتِ القمرْ

خبّأَتِ النجومَ في متاهاتٍ مسحورةٍ

انبعقَ الغمامُ بانصباباتِ المطر

يغسلُ خطايا الحبِّ، والأرضِ، والبشرْ

ما زلتَ تعاندُني،

تكايدُني،

تراقِصُني، تداعبُني

كنسمةِ صيفٍ عندَ السَّحَر

رفقاً بي، أيّها الليل..

سأروي لكَ كلَّ الحكاية،

واجتزئُ لكَ بعضَ الرواية…

بعيدةٌ عنه: عمري يضيع ُوسطَ الدّروبِ

ذكرياتٌ حفرت ْ أخاديدَ، وبعضَ الندوبِ

لقاؤهُ حلمٌ، يتراءى من بعيد،

والعشقُ صارَ حدَّ الارتواءِ، ويزيد،

والقلبُ ينبض سيلاً منِ اشتهاء

عساني أطيرُ إليه..

أرسلُ كلَّ طيوري بينَ يديه

أُسقيهِ شهداً مذاباً

أقبّلُ منه الوجهَ، والترابا

وأستعيدُ يوماً، فيه، كُنَّا شباب

سمر الديك سوريا فرنسا.

__________________

القراءة، بقلم: منذر فالح الغزالي

انبنت قصيدة عمر ينوء بشكل كلّيٍّ تقريباً على الاستعارة بشتى أنواعها وأشكالها، وقد اشتغلت الشاعرة على الرمز واللغة المجازية في بناء صورها، وإيصال رؤيتها، مستغلة الرموز الطبيعية على وجه الخصوص استغلالاً جمالياً أعطى للقصيدة بعداً جمالياً، باعتباره مكونا من مكونات الحداثة في هذا النوع من الشعر.

غير أني، قبل أن نبدأ بتحليل الصور الشعرية، وتفكيك بنياتها الرمزية والدلالية، أرى أنه من الجيد أن نمرّ على العنوان فنفككه ونعيد قراءته، لما يكتنزه من أبعاد دلالية تشمل النص وتحتويه.

أولاً- عتبة النص

عمرٌ ينوء!

جملة اسمية تبدأ بالخبر، أما المبتدأ فهو محذوف، مقدّر، وتقديره كامنٌ بين كلمات القصيدة، ستفرج عنه القراءة، حين يلتقي العنوان بالمتن، قل. حين ينضوي النص كلّه تحت جناح العنوان اللافت والبسيط، والحامل للتأويل في الوقت عينه.

العُمْر لغةً هو مدّة حياة الكائن الحيّ.

ناء، ينوء بحمله: نهض به مثقلاً، أُثقِل به فسقط.

عمر الإنسان ليس مجرّد شهورٍ وسنين، العمر زمن يعمّره الإنسان بالعطاء… أو بالشقاء

عمر الإنسان عمارة يتركها خلفه، تشهد على عظمته.

عمر الإنسان ذكرياته، أفراحٌ عاشها، أو أحزان كابدها.

وحين ينوء العمر بأحماله، يكون الإنسان هو من ينوء بها، وقد ينوء الإنسان بعمره.

الإنسان، المجبول من مشاعر وأحاسيس، يثقله الهمّ، تثقله المصائب، يثقله الشوق إلى أحبة فارقهم، أو فارقوه.

محمود درويش كتب: “جسمي مثقل بالذكريات وبالمكان”

وغازي القصيبي كتب على لسان المتنبي:

يا سيدي! في القلب جرحٌ مثقلٌ بالحبّ     يلمسه الحنين فينسكب”

أيّ المشاعر تلك التي تنوء بها شاعرتنا؟

هل هي الذكريات والمكان؟

أو الحب والحنين؟

ثانياً- تتبع الرموز في القصيدة:

افتتحت الشاعرة قصيدتها مخاطبة الليل:

“عنيدٌ أنتَ يا ليلي

رياحك شمالية”

ولم تكتفِ بمخاطبته، بل وصفته بالعنيد، باستعارة مكنية، وميّزته بليلها، كأنّ ليل الشاعرة طفلٌ، أو رجلٌ عنيد، أو هو وحشٌ لا يني يحاول افتراسها، ولا ينفع معه زجرٌ.

والليل من أكثر الرموز التي ألهمت الشعراء عبر كل العصور، منذ ليل امرئ القيس. “وليلٍ كموج البحر أرخى سدوله   عليّ بأنواع الهموم ليبتلي”

تتجلى رمزية الليل في بيت امرئ القيس بحضور الهموم، وفي أبيات قصيدتنا وصفته بالعنيد، كأنه صخرة امرئ القيس التي وصف بها ثقل همومه.

أضافت الشاعرة وصفاً جديداً لليل “رياحك شمالية” لتنزاح الصورة عن بدايتها، وتتشكل استعارة جديدة أساسها الطبيعة والهواء البارد؛ فالرياح الشمالية يعرفها سكان بلاد الشام وبعض أرجاء من الجزيرة العربية والعراق، هي رياح جافّة شديدة البرودة تسبب الصقيع، غير أنّ الشاعرة المثقلة بهمومها لا تكفيها قسوة الصورة، بصورة أكثر قتامة، وتنتقل درجةً أعمق في (الحفر الاستعاري)، إن جاز التعبير:

“لبستْ أرديةَ العتمةِ وسرَقَتِ القمرْ

خبّأَتِ النجومَ في متاهاتٍ مسحورةٍ”

تنتقل الشاعرة ببوصلة الوصف إلى “رياح الشمال” فتصفها بالمرأة التي ترتدي العتمة، وهي صورة مجازية تثير الرهبة، تذكّر بالغول، أو الغولة في ذاكرتنا الطفلية المحمّلة بحكايات جداتنا المخيفة، الممتزجة بالعتم، في صورةٍ شديدة الرهبة.

إضافة إلى ما للعتم من دلالة أسطورية كرمز للفناء والعدم والموت؛ فللقمر دلالاته العكسية، فهو رمز التفاؤل والنور ودليل المسافر في الصحراء، وصديق العشّاق والشعراء؛ كلّ هذا سرقته الرياح الشمالية، التي هي صورة الليل، الذي استخدمته الشاعرة أساساً لوصف حالها ومعاناتها.

ثالثاً- الحفر بالصورة، بناء القصيدة

تتوالى الصور في القصيدة باستعارات متنقلة، كل صورة تسلّم للصورة التي تليها، فلا يخفى على القارئ أن الشاعرة اعتمدت تقنية خاصّة في بناء نصّها الشعري، عمادها الصورة الشعرية، الاستعارة بشكل خاص، وهندسة تشكيلها ما يمكن أن نسمّيه الحفر بواسطة الصورة، فهي كمن يحفر بالصور، في كل جملة أو تركيب شعري تهبط درجة في الصورة، حتى وصلت بصورة الليل، وبالتالي صورة معاناتها وهمّها، إلى أعماقٍ سحيقة، مبتعدةً عن البداية التي انطلقت منها، غير مفارقةٍ لها.

وهي تقنية تمثّل، من ناحية أخرى، صدىً لمشاعر الشاعرة آن كتابة القصيدة، أو المشاعر التي عانتها فانبثقت عنها القصيدة، فالهمّ يزداد عمقاً وعمقاً في داخلها، والمعاناة تحفر في أعماقها بقوة وشدّة، كما تحفر الصور في القصيدة عمقاً وحدّة، كلّما اقتربت من سبب المعاناة، حيث تنفجر المعاناة في الوجدان، وتنتقل من اللاشعور إلى الحالة الواعية المدركة، وتتحول معها صورة الليل إلى صورة الحاكم، القاضي، الجلّاد، أو القاضي، أو صورة السمير الذي تشر ح له معاناتها وحكايتها، علّه يرأف بها قليلاً، ويخفّف وطأتها.

في هذا الجزء من القصيدة تصبح اللغة أكثر ميلاً للإنشائية، والتراكيب سلسة بسيطة: “سأروي لكَ كلَّ الحكاية، وأجتزئ لكَ بعضَ الرواية”، بعد أن زفرت الشاعرة نار معاناتها، فتحرّرت صورها من قتامتها، وتخلّصت من ذلك المعول لقابض على خناقها، الذي يحفر بصوره، في الوقت نفسه الذي يهبط بمشاعرها عميقاً، وصارت صوراً منفردة لا يربط بينها إلا رابط القصيدة، وحدة الموضوع، ووحدة الإحساس.

“بعيدةٌ عنه: عمري يضيع ُوسطَ الدّروبِ

ذكرياتٌ حفرتْ أخاديدَ، وبعضَ الندوبِ

لقاؤهُ حلمٌ، يتراءى من بعيد،

والعشقُ صارَ حدَّ الارتواءِ، ويزيد،

والقلبُ ينبض سيلاً منِ اشتهاء”

يشعر القارئ مع هذه الصور، كأنه يخرج من بئرٍ سحيقة أنزلته فيه الشاعرة في القسم الأول من القصيدة، وصار يرى النور، وتوضّحت المعاناة، حتى يصل مع الشاعرة إلى حلم جميلٍ وصورٍ تنفتح على الأمل بكل عناصرها ورموزها….

“عساني أطير إليه…

أرسلُ كلَّ طيوري بينَ يديه 

أُسقيهِ شهداً مذاباً 

أقبّلُ منه الوجهَ، والترابا 

وأستعيدُ يوماً، فيه، كُنَّا شبابا”

رابعا- خاتمة

رغم أن قصيدة الشاعرة سمر الديك قصيرة نسبياً، ورغم أنها تعالج موضوع الحنين، ورغم أنه موضوع مطروح كثيراً في الشعر العربي، إلا أنّ مهارة الشاعرة، في بناء هيكل القصيدة، ودقّتها في اختيار الصور التي تناسب الشعور في كل لحظة من لحظات كتابة القصيدة، واختيارها الرموز الطبيعية وشحنها بطاقاتٍ دلاليّةٍ هائلةٍ تناسب الغرض، وتعكس إحساسها، في ملحمةٍ من الصور الشعريّة المتعاقبة المترابطة، جعلت القصيدة تسحبني، كقارئ، من تلابيبي وتأخذني معها خطوة بخطوة، في رحلة هبوطٍ وصعود، فتعانقت المشاعر والكلمات، وتحوّلت الرموز، في خيالي القارئ، إلى صورٍ شبحيّة خرافية، في ليلٍ حالك القسوة. ثمّ تنفّست النور في صورٍ أخرى، فيها تفاؤلٌ وإشراق، كأنّما أصبح عليها صباحٌ من الأمل.

منذر فالح الغزالي

بون، 04/ 11/ 2020

About The Author

Contact