×

السيريالية و الغوص فى اللاشعور/بقلم: الأديب الناقد الأستاذ أحمد طنطاوي/مصر

السيريالية و الغوص فى اللاشعور/بقلم: الأديب الناقد الأستاذ أحمد طنطاوي/مصر

السيريالية و الغوص فى اللاشعور

السريالية و العالم الباطنى .

[1]

أولا : التعريف :

السريالية مذهب فرنسى ازدهر فى أوائل القرن العشرين , و هو فى تطبيقاته فن لا يأبه بالواقع .. و العلاقات المنطقية..

و لا يعتمد الأشياء المجردة غير المفهومة مدخلا و غاية _ كالفن التجريدى مثلا _ بل يعتمد ( العلاقات غير المنطقية) للأشياء الواقعية أساسا و قيمة ..

فالأشياء الواقعية تظهر فيه واضحة تماما ( رجل _ امرأة – شجرة _ مركب _ منزل _ ساعة _ صحراء … الى آخره) .. لكن العلاقات غير المنطقية بين هذه الأشياء و التى تستثير آلاف الرؤى و التساؤلات هى التى تظهر فيه … كما فى الأحلام .

و قد قامت بالفعل هذه المدرسة على إنجازات فرويد.. و تركيزه على الأحلام و اللا وعى .

العقل الواعى يقوم بترتيب و تنسيق و تنظيم الأشياء و حفظها فى شكلها المتسق المنظم .. و بعلاقاتها( المنطقية الصحيحة !!! ) طبقا للقواعد المتعارف عليها , و المثل و القيم الأخلاقية .

لكن هل هذا المنطق تندرج تحته الرغبات المكبوته .. و الذكريات الأليمة .. و ما تخفيه الأقنعة التى أضطر الإنسان لإرتداءها حفاظا على صورته و تكيفه الإجتماعى .. ثم( أخفى.. و ألقى .. و خزن.. كل هذا فى مكان قصى من العقل_ اللا وعى أو اللاشعور _ معتقدا أنه قد نساه ” أو هكذا يتهيأ له ” ) ؟؟؟… طبعا لا , العقل الواعى يكون بمثابة حارس يمنع هذه الوحوش الضارية .. و هذه الأشياء المكومة بغير ترتيب و نظام داخل اللاشعور ان تخرج او تظهر .

و عند النوم _ و نوم هذا الحارس ” العقل الواعى ” _ طبيعى أن تخرج هذه الأشياء هاربة فى تركيبها المشوش غير المنتظم هذا فى صورة الأحلام .. حاملة معها _بالإضافة للرغبات المكبوتة و الذكريات ” المنسية ” و الألام _ ما هو مختزن بها أيضا من ( لاشعور جمعى ) و هو ما هو مختزن فى الطبيعة الإنسانية بالتوارث من تراث العصور القديمة.

هذا اللاوعى رآه فرويد _ و رأته السيريالية بالتالى _ منطقًا آخر جديدا موازيًا ..

بل ربما كان المنطق الحقيقى _ و بشكل ما _ غير الزائف لخلوه من الأقنع .

[2]

فى السيريالية _ كما فى الأحلام _ يمكنك أن ترى مثلا منضدة مرتبة تماما موضوع عليها أطعمة و شراب فى صحراء قاحلة لا يوجد بها إنسان .. و بجانب المنضدة أو قريبا منها مشنقة ؟؟؟!!!

أو _ كما فى اللوحة الشهيرة ” الزمن ” للفنان العالمى سيلفادور د…الى رائد هذا الفن و أشهر أعلامه على الإطلاق _ شجرة فوقها ساعات ملتوية .. مشوهة .. بعضها مفرود او ممزق او ممدود بشكل غريب .. يوحى منظرها برعب الإنسان من الزمن .. و انقطاعه ..و غرابة مفهومه .

و هكذا ..

يجب عند النظر للوحات هذا الفن أن نستشعر الكامن وراءها .. و أن نتخذ من هذا المنطق المغاير معبرا لرؤى جديدة تطلق أرواحنا و تأملاتنا لعالم أكثر رحابة ..

عالم العلاقات فيه مخالفة للمألوف.. قد يلهمنا فهما جديدا لأشياء كانت خافية علينا و متوارية خلف حجب الواقع الذى ألفناه .

و بعد

هل رأينا كيف تكون الأحلام ؟

…و هل رأينا كيف هو لا شعورنا ؟؟

كيف تتكسر القيم المنطقية .. و كيف تنمحى قواعد الواقع النى ننظمها نحن , أو تنظم لنا ..

هل رأينا كيف يكون داخلنا منطلقا فى علاقات غير منظمة يتم فيه تجميع المتناقضات بعشوائية _ و ربما ببراءة أو وحشية .. أو كلاهما معا و فى نفس الوقت ؟ _ ..

فى مثل هذا الفن يمكن أن نرى المشنقة فى صحراء .. و بجانبها منضدة عليها طعام لا يجلس عليها أحد .. و هناك لوحة بالفعل بهذا الشكل .

الحياة و الموت معا فى نفس الوقت..و هو ما نفكر فيه شعوريا و لا شعوريا كل لحظة

[3]

ثانيا : حول قراءة اللوحات السريالية :

محاولة قراءة اللوحات السريالية بشكل تعميمى صارم _ فى رأيى _ هى نوع من التعسف ..فهى تقرأ بشكل فردى .. فهى رؤى _ أحلام _ و حلمى غير حلمك يقينا .

…و إذا كنا نتكلم عن اللاشعور فنحن نتكلم عن خبرة مسرفة فى ذاتيتها , فاللاشعور _ هو كالبصمات _ يختلف من إنسان لآخر , تبعا لتشابكات سماته الخاصة و تجاربه و ماضيه و رغباته و ما تم دفنه فى هذا المخبأ العميق فى عقله فى الماضى _ و ظن أنه قد نسيه _ و يظهر بعد ذلك بعشوائيته و غموضه هذا فى الأحلام _ لأنه” يكوم ” فى العقل الباطن بغير ترتيب موضوعى أو زمنى , و لكن يتراكم فى غير تنسيق أو تنظيم أو تصنيف .

و فى الأحلام يخرج هذا كله بنفس هيئته التى يشوبها الفوضى و الإرتباك الذى هو موجود بها فى مخزن العقل الباطن , و الذى تتجاور فيه ذكرى شجرة شوهدت قديما مع ذكرى امرأة فى قطار رأيناها فى طفولتنا _ و نسيناها أو هكذا نظن _ مع منظر مشاجرة طعن فيها إنسان بخنجر , مع منظر بحر .

فى الحلم , يمكن أن تخرج فجأة و معا كل هذه المناظر دفعة واحدة متجاورة .. مكونة حلما .

و اللوحة السريالية تعبر عن حلم كهذا .

يجب أن نضع فى اعتبارنا هذه الحقيقة و نحن نشاهد اللوحة السريالية , و أن نحقق نوعا من التركيز المزدوج :

عقل واع ملاحظ , و محاولة ( تمثل ) لاشعورنا نحن و آلياته التى نحسها _ كما هى فى أحلامنا نحن _ لنقترب من عالم لاوعى الآخرين … هؤلاء الفنانين الذين حاولوا تجسيده

كيف يعمل الحلم _ الذى هو لوحة سريالية غير ظاهرة إلا لصاحبها _ ؟؟

كما ذكرت سابقا .. يمثل العقل الواعى الحارس المنضبط المتحلى بالقواعد الصارمه و المنطق ( و أيضا المثل و الأخلاق ) , فإذا ابتعد هذا الحارس _ أثناء النوم _ أنطلقت هذه الوحوش , أو… تلك الفوضى , من إسارها لتمرح و تعبث , محققة نوعا من التنفيس و التوازن الداخلى للإنسان _ فالحلم له وظائف رغما عن هذا _ .

إذن نحن فى الحقيقة أمام عالمان .. و كلاهما نعيشه .. أحدهما ظاهر متعب بنظامه و قسوته المنضبطة المقيِِدة, و الآخر فى داخلنا .. متوارِ و خبيىء و خجِل و حر فى نفس الوقت .

و آلية الحلم تحقق نوع من التوازن بين تحقيق رغباتنا الدفينة _ و التى قد لا نرضى عن بعضها _ و بين عدم إيلامنا بعد ذلك حين نستيقظ , أو إستيقاظنا من النوم نتيجة حدوث الفظائع التى لا يرضاها العقل الواعى حتى أثناء النوم _ فهو يتواجد بصورة طفيفة أثناء النوم و لا يكون غيابه كاملا تماما _ .. و لهذا فآلية الحلم تعمل فى شكل مرمز _ رمزى _ فتحقق هذا التوازن .

فالكره الشديد مثلا لإنسان قريب منا جدا _ والمخفى فى العقل الباطن , لأن وجوده على سطح العقل الواعى يسبب لنا ألما أخلاقيا _ يظهر فى الحلم مرمزا بشبيه له و لو فى العمر مثلا , أو فى ما يمكن أن يرتبط به ليعبر عنه .

فمنظر عجوز لا نعرفه مشنوق مثلا على شجرة , و بجانبه طفل صغير يلهو _ قد يمثلنا فى حقيقة الأمر فى طفولتنا , أو حتى فى كبرنا عملا بدلالات الترميز _ حقق هذا التوازن بين الرغبة فى الإنتقام , و عدم التألم _ سواء بعد الإستيقاظ , أو إنقطاع النوم و الإستيقاظ فجأة من النوم هربا من الموافقة على هذه المشاعر الآثمة .

و يمكن إسرافا فى الترميز أن تظهر ساعة هذا العجوز _ و التى هى دالة على هذا القريب _ محطمة أو ملقاة فى بئر رمزا لتمنى غرق هذا الشخص .. و هكذا .

الآلية الأخرى هى التجاور , و تجاوز الزمن … بمعنى عدم التسلسل و الإنتظام فى الظهور , بل يأتى الجميع معا و دفعة واحدة .. الرغبات مع الذكريات مع الآمال و الماضى مع الحاضر مع المستقبل .. كل هذا يأتى معا و فى تشابك و عشوائية و فوضوية .

و ما كان يفعله المحلل النفسى _ طبقا لمدرسة فرويد رائد هذا المجال _ هو فك هذه التشابكات و إعادة تنظيمها و حل الرموز و إيجاد مماثلاتها الواقعية , و العودة شيئا فشيئا عبر ( تحليل المركب الى جزئيات ) للماضى عن طريق هذا المخزن الذى يحويه و يضمه للوصول لأصل المرض , لإظهاره أمام المريض فى شكل جديد يراه فيه على حقيقته كأول مرحلة _ و أهمها _ من مراحل العلاج .

[4]

ما أود قوله , هو ضرورة إدراك المشاهد للوحة السريالية لآلية الحلم هذه , ففيها _ باعتبار الحلم هو جوهر هذه اللوحة و أساسها _ يكمن الجزء الأكبر من عملية فك شفرتها

تتعامل اللوحة السريالية , الفوق واقعية _ كما يبدو من إسمها _ مع واقع آخر مخالف , و نظام مغاير يصيبنا بالدهشة _ و ربما الصدمة و الكآبة _ لأنها تخرج لنا من الأعماق عالما نجهد فى محاولة إخفاءه و تناسيه و تجاهله.

تضعنا هى فى مواجهته , فنرى داخلنا فى نظامه المشوش الغامض الغريب و غير المألوف لنظامنا العقلى المرتب و المنظم, إنها ترينا جانبنا الآخر المخفى و المختبىء , بكل فوضويته و عشوائيته.

و ربما كانت مشاعر الضيق و عدم الإرتياح و الكآبة التى تجتاحنا عند مشاهدة هذه اللوحات هى ما تفرضه علينا من موقف ( مزدوج ) نعايش فيه فى اللحظة الواحدة عالمينا ( المعروف منه و المجهول ,, الواعى و غير الواعى ) معا .

إننا نعايش( الحلم ).. فى ( اليقظة) !!!!!!!!!!!!

وهؤلاء الرسامون السرياليون لا يعطون ” صورة تشاؤمية عن الإنسان ” .. هم لا يتعمدون ذلك أو يقصدونه على الإطلاق , فكل ما يفعلونه هو أنهم يضعون جانبنا الآخر _ ذلك الذى نهرب منه _ أمامنا و( بإصرار ) , و طرح هذه الفوضى كما هى بالفعل هو أمر لا يمكن التدخل فيه تزيينا , أو تجميلا بالفرح , لأن هذا من شأنه أن يفقد هذا الفن معناه تماما , و هو إبراز هذا الجانب الآخر .. كما هو , و على طبيعته , و بنظامه و منطقه الخاص

[5]

فى وظيفة الفن والتلقى .. و السريالية .

(1 )

حين عرف أرسطو قديما الفن بأنه ( محاكاة الطبيعة ) كان يلمس بعدا واحدا و معينا من العملية الفنية .. بعدا تقنيا يعنى بالحرفية و براعة المماثلة كالذى يبدو فى الفن الكلاسيكى من وحدة وإيقاع وانسجام وتنسيق.و عدم إظهار للعواطف و الانفعالات , و اهتمام بإظهار رصانة الوجوه , و التعبير عن الجلال والجمال والعظمة , و إعطاء الشكل المثالى للطبيعة .

مع توالى القرون , و تنامى المعرفة فى إتجاهات شتى , و الثورة الصناعية , و الصراع و الحروب _ خاصة الحربين العالميتين _ و ظهور الفلسفات الحديثة كالوجودية مثلا و نظريات علم النفس كنظرية التحليل النفسى , و النظريات الأخرى كنظرية التطور و النسبية تغيرت تماما نظرة الإنسان للكون و الطبيعة و لنفسه أيضا , و تولدت بالضرورة أبعاد و رؤى أخرى لم تكن فى القرون الأولى عبر عنها الأدب و الفن , الذى أصبح أكثر إلتصاقا بالنفس البشرية , و أصبحت نظرته للطبيعة غير مفارقة ( إنسان ) فى مواجهة , أو أمام ( الطبيعة ) , بل تكونت نظرة جدلية تدمج الإنسان مع الطبيعة فى علاقات يميزها التداخل و التشابك و الحوار و شكلت ما يماثل وحدة من نوع خاص ( الإنسان \ الطبيعة ) .. كما تطرق الفن لأغوار الإنسان و أعماقه بشكل لم يهتم به الفن الكلاسيكى على الإطلاق الذى كان يعنى فقط بإظهار البطولة و النبل و القدسية .

و على هذا , فقد تغيرت وظيفة الفن من المفارقة و الحيادية _ و ” التطهير ” الأرسطى _ الى وظيفة أخرى أكثر فاعلية و اقترابا و إيجابية من الإنسان و للإنسان كما يبدو مثلا فى ( التغريب البريختى فى المسرح ) كدعوة للتغيير عن طريق إظهار المألوف غريبا فنرى عيوبه و قبحه فنغيره, و كان دعوة للتفكير و التغيير و الثورة .

و هكذا فإن آلية التلقى هى الأخرى قد تغيرت مع تغير هذه العوامل , و أصبحت نظرة الإنسان للفن تحوى قدرا أكبر من المشاركة , و الإرتباط , و ظهرت نظريات تقول مثلا بأن القراءة أو تلقى العمل الفن هى ( إبداع آخر ) او ( تأليف ثان ) للنص

(2 )

, الأدب و الفن هما نتاج المخيلة الإنسانية التى تتفاعل حتما و تعايش ظروفها التاريخية و الإجتماعية المتغيرة , ففى الكلاسيكية مثلا و النيو كلاسيكية _ فى الأدب و الفن _ كان الموضوع الأساسى هو الملوك و النبلاء و الأبطال و القديسين , و ك…ل ما هو مثالى _ أو يفترض أن يكون _ و كانت أماكن الأحداث هى القصور و القلاع و ما يماثلها عظمة و ضخامة .

فلما جاءت الثورة الصناعية و ظهرت طبقة العمال , و نشأت إتجاهات أجتماعية جديدة من آثار ذلك , كان الظلم و التشوش الإجتماعى أحد سماتها البارزة التى دعت بريخت كما ذكرت أن ينشىء مسرحه التغريبى المخالف لقواعد أرسطو كأداة للتغيير , ثم جاءت بعدها الواقعية الإشتراكية التى رأت للفن و الأدب دورا أساسيا فى التعبير عن الطبقات المقهورة كشرط أساسى لتحقق مفهوم و دور هذا الأدب و الفن , و نشأ ما يعرف بالإلتزام فى الأدب و الفن .

فى نفس الوقت _ و بمحاذاة هذا _ نشأت إتجاهات فردية , و ليست إجتماعية , ترى الحل فى الإتجاه للداخل .. لداخل الإنسان باعتبار الفن و الأدب ( ظاهرة فردية , أو ملمح ذاتى ) يعبر عن جوهر الإنسان فى تفرده و خصوصيته , و كانت إحدى مظاهرها المتطرفة هذه الإتجاهات السريالية التى لم تكتفى بوعى هذا الأنسان الفردى , بل توغلت و اقتحمت عالمه الداخلى و لا شعوره , باعتباره الجانب غير المزيف منه .. الخالى من الأقنعة

( 3 )

نحن إذن فى الفن الحديث و المعاصر خاصة لسنا أمام اللوحة بل ( داخلها ) , لكن هذا التحول و التعدد فى الإتجاهات و المذاهب الفنية عبرالعصور المختلفة _ كالتأثيرية و التعبيرية و التجريدية … الى آخره _ كان يحاول الإقتراب من الوجدان الإنسانى طبقا لرؤية أصحاب كل اتجاه فى شكل و طبيعة هذا الإقتراب ,

فمنها ما حاول إيجاد علاقة و نظرة هندسية فى التناول كالتكعيبية , و منها ما سعى الى نمط تجريدى يحيل الأشياء و القيم المادية _ و النفسية أيضا _ لمعان و رؤى مجردة كالتجريدية

و منها ما اقتحم عقله و باطنه اللاشعورى كالسريالية .. ذلك الإتجاه الصادم الغريب لغرابة محتواه . .

و فى كل من هذه الإتجاهات كان هناك التأثير و التلقى الذى يستثير بالضرورة المشاعر و الرؤى و يحرك

المخيلة و العقل تبعا لطبيعة كل اتجاه

و ثمة فرق بين السريالية و التعبيرية يتمثل فى أن .

التعبيرية تهتم بنقل المشاعر المتأججة تجاه موضوع ما , مرتكنة إلى العاطفة, و الفنان فيها يعبر عن أحاسيسه الباطنية و معاناته و توتره .

أما السريالية فتنتفى فيها القصدية , إنها إفراغ غير ممنهج و لا منظم للداخل , و كما هو بعشوائيته الحلمية الكابوسية .

و قد كان الفنان النرويجي أدوار مونش 1944-1863 هو خير معبر عن التعبيرية بلوحته الشهيرة ( الصرخة ) و التى قيل فى وصفها أنها ( تجسيدحديث للقلق ) .

” ملاحظة : ثمن هذه اللوحة حوالى ثمانين مليون دولار .

[6]

ثالثا :” سلفادور دالى ” و عالم الأحلام المرسومة .. أو الهلوسة الممنهجة ( المنظمة )

يروق لى دائما أن أصف ” دالى ” ب ( المقتحم ) … مقتحم عالم الداخل الباطنى العميق بهلوساته و هذيانه و غرائبيته .. مفتشا , باحثا , منقبا .

…هو يسبر أغوار عالم خفى و خطير .. فهو مغامر شديد الجرأة بلا شك .

لكنه فى رحلته تلك , قد فعل ما هو أكثر من ذلك , فهو قد مزج ببراعة غريبة للغاية بين عالم للأحلام و الرؤى و بين عالم مستقبلى آلى ميكانيكى , رابطا بهذا بين النفسى الغامض و بين الفلسفى العلمى العميق فى رؤى تعصف بالتفكير فى شكل صدمة تكسر حواجز الزمن و نظامه الرتيب , فلا يدرى المشاهد للوحاته الفروق بين الماضى و الحاضر و المستقبل .. بين الأحلام و الواقع .. بين الخيبة و السقوط فى مقابل الأمل و الرجاء .

ولد “سلفادور دالى ” عام 1904 فى كاتالونيا بأسبانيا , و فيها أيضا دفن عام 1989 ,و اعتمدت طريقته الفنية الإرتفاع بالأشكال الطبيعية الى ما يتجاوز الواقع المرئى متخلصا من المبادىء التقليدية للرسم , فالأجسام عنده تتميز بافتقاد الترابط و غرابة التركيب , مركزة على ما وراء الحقائق البصرية

السريالية مدرسة ضمن مدارس.

كالمذاهب الأدبية و الفلسفية _ و كل ما له صلة بالإنسان فكرا و وجدانا _ هى أيضا إتجاهات و تيارت الفن التشكيلى و فن التصوير أو الرسم .

…و غالبا ما تساوقت و تزاملت طبيعة هذه الإتجاهات فى الفنون و الآداب , فالمدرسة الكلاسيكية أدبا و فنا تتميز بالرصانة , و عصر الباروك المسرف فى الزخرفة شمل الأثنين , و كذلك المدرسة الرومانسية و أيضا السريالية .

الأدب و الفن هما نتاج عقل و وجدان فنان يعيش فى ( ظرف ) تاريخى معين , و يخاطب أناسا يعيشون نفس الظرف التاريخى الذى يحكمه تصور معين و ذهنية مشتركة .

و يمكننا أن نرى كيف كان التماشى مع طبيعة و ظروف كل عصر و الفكر السائد فيه من خلال المدارس الفنية المختلفة كالكلاسيكية و الرومانسية و الواقعية و التعبيرية و التأثيرية و التكعيبية و التجريدية و غيرها

فى بيان “آندريه بريتون ” زعيم الحركة السريالية سنة 1924 ذكر فى تعريفها أنها :

“التلقائية الفنية النفسية المجردة و التي تمكننا من التعبير إما عن طريق الكتابة أو بأي طريقة اخرى ..و هي العمل الحقيقي للفكرة ، السريالية هى كتابة و املاء الفكرة… بعيدا عن سيطرة العقل و بعيدا عن اي استغراق خيالي و جمالي “

و لذلك فقد انتشرت السريالية شاملة الفنون المرئية و الادب و الافلام و الموسيقى , و إن كانت قد ظهرت بشكل واضح و صارخ فى مجال الرسم .

تعتمد السريالية إذن على تحرير المخيلة , و إطلاقها من إسار العقل و الواقع و المنطق .

و كنت قد ذكرت فى نهاية الموضوع ” تساوق و تزامل الإتجاهات الفنية فى الفنون عامة و الآداب , حيث أن

الأدب و الفن هما نتاج عقل و وجدان فنان يعيش فى ( ظرف ) تاريخى معين , و يخاطب أناسا يعيشون نفس الظرف التاريخى الذى يحكمه تصور معين و ذهنية مشتركة ” , فليس غريبا إذن أن يمتد أثر إتجاه معين ليشمل كل هذه المناحى , و ليس غريبا أن يتزامل أدب العبث _ أو اللامعقول _ فى الأعمال الأدبية كما عند صمويل بيكيت أو يوجين أونيسكو مثلا , وكما ظهر فى الإتجاهات الحداثية , و ما بعد الحداثية

السريالية ( نظام خاص ) ..نظام متجاوز ..كلمات عشوائية وغير مترابطة ”

هو ذلك من المنظور ( المألوف ) , المنظم طبقا لآليات عهدناها , و نحينا جانبا آخر _ هو معنا _ لكننا نتجاهله, و هو ليس عشوائيا أو غير مترابط بالنسبة لهذا الجانب ( الآخر ) ……….

كان ” بريتون ” زعيم هذه الحركة طبيبا نفسيا , يعالج طبقا لمدرسة ” فرويد “الجنود العائدون بالإنهيارات و الشروخ النفسية التى خلفتها الحرب العالمية الأولى , و لا شك أنه رأى _ من خلالهم _ عالما آخر ( باطنيا ) يعيشونه بعمق _نعيشه نحن أيضا بدرجات و تصورات و رؤى و درجات مختلفة _ لكنه طفا على السطح عندهم بصورة أكثر فجاجة و مباشرة و وضوح .. بينما نجاهد نحن فى إخفاءه !!!

الجنون داخلنا جميعا بدرجات و أشكال مختلفة , لكننا نجاهد فى جعله وراء ستار , فى غرفة محكمة الغلق , و ( نزين ) أبوابها الخارجية بكل أنواع الزينة ( المنطقية و القواعدية و النظامية ) .. و الأقنعة .

فنحن فى الحقيقة نعيش واقعين .. أحدهما مستتر .

ما تفعله السريالية … _ هو أنها تفتح هذه الغرفة , و تقذفنا داخلها , ثم تغلق الباب ورائنا بسرعة , لتتركنا نجابه وحدنا صدمة جانبنا الآخر المخفى .. لنرى و نفكر و ( نعيش ) نصفنا الآخر …

دونما خداع , و لا تزيين …… و لا أقنعة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

( أحمد طنطاوى ) \ 2009

About The Author

إرسال التعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

Contact