×

تموز والاغتراب، قراءة سيميائية في العنوان في ديوان “آدون الشاعر المغترب” للشاعر ناصر زبن الدين بقلم الناقد منذر فالح الغزالي في الحلقة الثالثة من (ناقد وكتاب) لغرفة النقد الأدبي

تموز والاغتراب، قراءة سيميائية في العنوان في ديوان “آدون الشاعر المغترب” للشاعر ناصر زبن الدين بقلم الناقد منذر فالح الغزالي في الحلقة الثالثة من (ناقد وكتاب) لغرفة النقد الأدبي

تموز والاغتراب، قراءة سيميائية في العنوان  في ديوان “آدون الشاعر المغترب” للشاعر ناصر زبن الدين بقلم منذر فالح الغزالي

الشاعر ناصر زين الدين

تمهيد

يعدّ اللجوء إلى الأسطورة والرمز الأسطوري من أهم سمات الانفتاح الحداثي في الشعر العربي المعاصر؛ وكان من أبرز سمات هذه الحداثة استثمار الأسطورة التموزية، حيث بلغت هذه الخطوة الحداثية ذروتها في أواسط الستينيات من القرن الماضي بظهور حركة شعرية سميت (الشعراء التموزيون)، نسبة إلى تموز بطل الأسطورة البابلية.

تقوم أسطورة أدونيس على ثنائية الموت – البعث، فالموت أمر لا مفرّ منه، باعتباره النهايةُ الحتمية لكل شيءٍ مهما طال به الأمد؛ وفي المقابل البعث المتجدد الذي سعى الإنسان، منذ جلجامشَ السومريِّ، للظفر به، بشكلٍ أو بآخر، فأدونيس لم يمت؛ لكنه غاب ليبعث من جديد، حسب الأسطورة البابلية.

هذه الجدلية الثنائية، جدليةُ الموت والانبعاث،’ شكلت نبعاً لا ينضب لدى الشعراء، لما يحمله موت تموزّ من معاني الاغتراب بمختلف أشكاله: الإنسانية والسياسية والوجودية؛ وما يحمله انبعاثه من معانٍ مختلفة في كلِّ مناحي الحياة، لتجاوزِ الهوانِ على مستوى الوطن، الوطن الأرض، والبيت، والأهل…  والوطن الداخليّ، روح الشاعر وهواجسه وأفكاره وعاطفته…

وديوان “أدون، الشاعر المغترب” للشاعر اللبناني المغترب ناصر زين الدين، يستلهم أسطورة تموزَ في حضورها الكنعاني “أدون” ليحمّله رؤاه الشعرية…

ها هو يقول عن نفسه في قصيدة (لعينيك):

“إنني آدون

استيقظتُ

بعد أن شربتْ شقائقُ النعمان من دمي

استيقظتُ وحيداً

أعانق الحياة من جديد”

إذا كان الناس يستقبلون عودة أدونيسَ الغائبَ بالطقوس، فتتفتح الحياة بعودته وتزهر زهور شقائق النعمان، فإنّ الشاعر يعود وحيداً، غريباً، كأنما لا ربيعَ في وطنه… هنا يبدأ بتحديد غربته، غربة الشاعر، و سوف تكون السطور التالية هي اقتفاء أثر هذه الغربة، وتلمُّس أهمِّ عناصرها.

أولاُ: الغربة في الوطن

لبنان هي موطن الشاعر، وبيروت هي مدينته التي عشقها وعاش في حناياها، خبر حنانَها، ثم عاش مأساتها وحروبَها:

يصف الشاعرُ فظاعةَ الحرب في وطنه بعيني أدونيسَ الذي انبعثَ؛ لكنْ بدل الربيع كانت الحرب، نقرأ في قصيدة (ضوضاء):

“أرى حاملاتٍ

تجوبُ طُرُقاً أُفُقيَّةً

إلى أعلى نقطةٍ، فتقفُ

في غرابةٍ

وأنابيبَ

تملأُ السماءَ

من صوبٍ إلى آخرَ

وأسمعُ ضوضاءَ لا تتركُ لي هدوءا…

هنا وهناك…

بريقٌ ثمَّ بريقٌ…”

ويكون أدون الشاعر شاهداّ على ويلات الحرب وضحاياها، يكمل في نفس القصيدة:

“أخافُ وأركضُ

من هنا… لا، لا، إلى هناك..

أضيعُ في ضوضاءِ الموتِ

رأيتُ أُناساً يركضونَ ويُقتلونَ…

وباباً

حاولتُ فتحَهُ

وكان من خلفِهِ

جثثٌ تُقفلُهُ ممسكةً بهِ”.

ويتساءل في ذهولٍ، كيف تحوّلت بيروت إلى كلّ هذا الدمار:

“كيف خرجت (ميدوزا) من البحار؟

كيف هدّمتِ الأسوار

كيف حجّرت بعينيها الصغار؟

ووقع في متاهات الصراع

  فتانا الجريح

في مقبرةِ اليتامى

وقعَ على الضريح”

ميدوزا، الأفعى التي تُحوِّل من تقع عليه عيناها إلى جماد، في إشارةٍ إلى العدوان الإسرائيلي على بيروت، ودمار بيروت وحصارها.

ثانياً: الغربة الحضارية

ميدوزا هي رمز السكون، وعدوةُ الحركة، السكون الماديُّ، والسكون الحضاري، توّقف دورةِ التجدد والانبعاث، الذي يمثله أدونيس، فالحرب في بيروت سببٌ لغربة الشاعر، لكن ليست الحربُ وحدَها، وليس خرابُ البيوت وحدَه، ولا العدوُّ الخارجيُّ وحدَه هو ما يعانيه الشاعر، في قصيدة (أنا عربي) نلمس وجهاً آخر لمعاناته:

“أتعرفونَ لغتي..

حروفٌ أضاعتْ نقاطَها…

عربيٌ…

وفي جُعبتي

رصاصٌ وبضعُ أطعمةٍ وترابٌ…

جسدي عارٍ

إلاّ منْ اهتراءِ الزمانِ

ووشمٍ.. ودماءٍ…

وقصَّتي

ردَّدَتْها جَدَّتي:

عِرضٌ.. وأرضٌ.. وحروبٌ…

في عتمةِ التاريخِ…

لا أدري

مكفوفٌ وأمشي…

عربيٌ أنا…

الموتُ يلتحفني

وشياطينُهُ

تُعلّمُني رقصتَها

صمتًا وبكاءً…

عربيٌ أنا…

وثوبي تشقَّقَ..

يتطايرُ في مسيرتِي

ويتمزَّقُ”

إنه التخلّف الحضاريّ الذي يؤلم الشاعر، ويغضبه، ويجعل بين حال وطنه المؤلمة، وبين حلمه بوطنٍ جميلٍ متحضّرٍ، هي غربةٌ أعمقُ من غربة أدونيس.

ثالثا: غربة المواطن في وطنه:

 في قصيدة (في جعبتي) يتماهى الشاعر مع المواطن العربي الذي يشعر بالغربة حتى وهو في وطنه، الوطن الذي سلبه حكامٌ ظهروا كالنبت الشيطانيِّ في صراع الحروب، ودهاليز السياسة:

“في جُعبتي…

ليلٌ دونَ قمرٍ..

عَواصفُ

انتحابٌ للشجرِ…

غُرابٌ طارَ في النفيرِ

واستفاقَ

في صباحِ ليلٍ أسودَ

ظنَّ أنَّهُ أميرٌ

وغابَ بينَ الغيومِ”

هؤلاء الحكامُ الذين ظهروا من غياب عشتار، في ليل الوطن، وعلى أنقاض دمارِه  كالغربانِ، وظنّوا أنّهم أمراءٌ حقاً، ونهشوا الوطن كما تنهش الغِربان جُثةً بعد صراعٍ دمويٍّ.

من تجليات عشتار أنها سيدة القمر، للتشابه بين حياة المرأة الفيزيولوجية وإيقاع جسدها، وبين دورة القمر الشهرية، الذي يبدأ هلالاٌ في اول الشهر، ثم يكتمل بدراً في وسطه، ليتلاشى من جديدٍ، في آخر الشهر، ويبدأ دورةً جديدةً في شهرٍ جديد.

والشجرة هي ايضاً أحد تجلّيات الإلهة الأنثى، فأدونيس ولد من ساق شجرة، تمثل عشتار، في الأسطورة الفينيقية.

رابعاً: الغربة الجسدية، المنفى.

في أكثرَ من قصيدةٍ يصف الشاعرُ غربتَه بعيني أدونيس، فتارةً هو البحّارُ الذي فقد السفينةَ، وتارةً هو الهارب من بلادٍ تأكل أبناءها الطيبينَ، وتهجّرُهم:

“سأسرق بعضَ الحروفِ

من لغتي

وأخبئها

في جرحي

وجسدي النازفِ

وأسبح أرضاً

خارج الحدود

هارباً من هويةٍ عربيةٍ

لأصبح نازحاً”

وتتضاعف مأساة الشاعر حين يقرأ أخبار وطنه، ويأسى فلا يجد في غربته من يشاركه حزنه، من يشكو له:

“وحيداً أبكي

في لغةٍ أجنبيةٍ غيرِ مفهومة

وقد رأيت ما حصل

أيصدقني أحد؟

وأنا الهارب من الوطن؟”

خامساً: الغربة الوجدانية

للحب في الديوان حضور دائم، بل الديوانُ كلُّه ديوانُ حبٍّ، وهو المسمى باسم إله الحب! لكنَّ قصائدَه الوجدانيةَ، التي يرسلها لحبيبته، لها حضورٌ خاصٌّ، وقصائد الديوان الوجدانية ليست مكرسةً لعشق امرأة، وإن كانت حاضرةً، فالشاعر يسمّي حبيبتَه: عشتارَ،  باسمها الصريحِ أو بأحد رموزها؛ وكما أنّ طقوسَ الحبِّ المقدَّسةِ في معابدِ عشتارَ، الحبُّ فيها يكون طقساً مقدّساً، يتضرّعون فيه الى للإلهةِ عشتارَ ، واهبةِ الحياة، في مواسم جْدِبهم، ومواسمِ خيرِهم؛ وكما أنّ عشتارَ الأسطورةِ هي الإلهةُ الأمُّ، يهرع إليها المؤمنونَ، فإنّ عشتار القصيدة، الحبيبةِ، هي المرأةُ الكليّةُ، الحبيبة التي تتضرع اليها روحُه ليستعيدَ توازنَه؛ وفي هذه القصائدِ تحضرُ الغربةُ أيضاً، وتكون مناجاةُ الحبيبةِ هي حلمٌ في اللقاء، أو وقوفٌ على الذكريات:

“تهربين أنت والقمر

وفي ليلتي الحزينة

كنت أجلس على مقعدي القديم

أتأمل سماءك

قمرٌ هو أنت

سابحةٌ في أسرار السماء

في الصفاء

في لهفة اللقاء

في تلألؤ النجوم”

ويرى بأن افتراق عشتار وأدونيس هو سببٌ لما آلت إليه حالُ وطنه، وأنَّ الخلاصَ يكمن في التقائهما من جديد؛ كما كانت عودةُ تموزَ من العالم السفليِّ، والتقائه بعشتارَ هو انطلاقةُ الحياة وبدء الربيع:

“يقوم تموزُ، بكفَّيهِ يحمل الصغارَ

يصيح (عشتارُ… عشتارُ)

تعانقا

كالبدر في ساحة السماء

يعانق المساءَ

بين أنقاض المدينة”

سادساً: غربة وجودية

الاغتراب من طبيعة الإنسان، نجده في آداب الإنسان منذ أقدم عصوره حتى الآن، هذا الكون وما فيه، والطبيعةُ والانسان ذاتُه، والموت والحياة، كلُّها عناصرُ تشكّلُ لدى الإنسان قلقاً وجودياً، وتتركه معلَّقاً على حبال أسئلةٍ يحاول أن يجد حلاً لها، بدءاً من الأساطير الأولى، ولا يزال يحاول أن يستعيد توازنه في الفنون والآداب….

هذا الاغترابُ الوجوديُّ هاجسٌ لدى الشاعر ناصر زين الدين، نراه في قصائده مبثوثاً متفرقاً، لكنه لا يخفى. في قصيدة (هجرة القمر) يقول:

“ليلٌ

دمعه شحوبٌ….

باكٍ

يراقصه الشجر

أحبّ

حلم الوجود….

صراعٌ

في دنيا البشر

ضبابٌ

عند الغروب

فكانت هجرة القمر”

ويكمل في القصيدة ذاتها:

“أنا فتى الليل

ابن الظلام….

صارعت الزمان حيناً

ثم القدر”

وينهي القصيدةَ بهذه الخلاصة التي تعبّرُ عن قلقه وغربته الإنسانية في عالمٍ يسوده الصراعُ:

“هاجر القمر

حين رأى صراع البشر”

وقلق العجز أمام هذا الوجودِ الذي يثقل روحَه الشفافةَ:

” أمواجٌ

تصرخُ في الزمنِ..

والمحن

لا تَلقَى

سوى آدونَ

بحّارٌ

كالقبطانِ

لكنّه دون سفينةٍ

كأسطورةٍ

عانقتْ حزنَ الوجودِ

رهبةً دون حدود

رهبةَ النوى

وصرخةَ الأمواجِ في العاصفة..”

إنه العجز الإنسانيّ أمام وجودٍ يأبى أن يُحْكَمَ، وإن ظنّ الإنسان أنه أحكمَ قبضته عليه بما أنجز من علوم، فإذا به كلما تجاوز لغزاً، وُلِدت ألغازٌ جديدة، ليظل الإنسان في دائرة عجزه، يحاول الفَكاك من شبكة الأسئلة بأسطورةٍ تُبنى على أنقاض أسطورة.

سابعاً: الابن المخلّص

 تموزُ الذي مزَّقه الخِنزيرُ البرّيُّ، وأزهرتْ من دمائه شقائقُ النعمانِ، واصطبغ َبلونها نهرُ إبراهيمَ، لم يكنِ الموتُ خاتمتَه، بلِ الإيذانُ بانبعاثه، وتجدّدِه، ليُعيدَ للأرض خصبَها وللحياةِ رونقَها، ولِيبدّلَ طقوسَ الندبِ والبكاءِ، بطقوسِ الفرح والحبِّ؛ واستعارةُ أدونيسَ في الشعرِ هو لبثِّ الأمل، واليقينِ بأنَّ الفناءَ ليس قدراً، وأنْ لا شيء يفنى؛ لكنّها دورةُ الحياة؛ كما يأتي خريفٌ وشتاءٌ، سيأتي ربيعٌ وتُخْصِبُ الأرضُ من جديد؛ وتموزُ الذي يمثّلُ تجربةَ الاغتراب، يمثّل، في الوقت ذاته، تجريةَ الانعتاق؛ في صعوده من عالم الاموات، وبعثِه وقيامته، صورةٌ من صورِ الحرية والتجدد. من هذا المعنى لأسطورة تموز، نجد الشاعرَ زين الدين ينهيَ الكثيرَ من قصائده بإشارةٍ إلى الانبعاثِ  والخلاصِ، والغدِ القادم ، نأخذ إشاراتٍ من خواتيمِ قصائده التي تبثُّ اليقينَ بعودة تموزَ والخلاصِ، مثل:

“النورس سيعود

يحمل في فمه حبة قمح

رسم عليها البقاء”

سنبلة القمح، هي رمزٌ آخر من رموز عشتار، إلهة الخصب، وجدت تماثيلها وأختامها تحمل سنبلة القمح بصور مختلفة. وتموز الذي هو امتداد للإلهة الأم، يبشر بالخصب القادم، والنماء، كما بشرت حمامة نوح بنهاية الطوفان.

ومن مثل:

“لكنني…

ما زلت أتنفس

وما زال هنالك إلهٌ

وبعضٌ من آلهة الشرق

ما زلتُ أزحف

والشاهدة رُفِعت على قبري

قبل أن أموت

وما زال هناك

إلهٌ ينبض في جسدي”

وكذلك:

“أكاد أرى عينين تسجِنان جنة القمر

يفيض من جفنيهما كوثرُ السَّحَر

قطرةً فقطرةً

وتنبت بيروتُ

ربيعاً من الأنقاض”

علمنا أن القمر هو صورة عشتار في الأسطورة القديمة، وأن عشتار هي ربة الينبوع تسقي الزرع بجرّتها، وتتفجر الينابيع في الأرض، كما يتفجّر الحليب من ثدييها، فترتوي الأرض وتنبت، كما يرتوي الرضيع وتكتمل دورة خلقها.

خاتمة

الدروب في ديوان الشاعر ناصر زين الدين متفرعةٌ، متشعبةٌ متداخلة، كأنّه قصيدةٌ واحدة، أسطورةٌ جديدةٌ عن الإنسان في غربة وجوده، وغربة وطنه، وغربة حضارته… لكنْ لا بدّ أن يتوقف الحديث.

في الكلام الجميل وسحر المتعة، يكون الوقت  سجناً أقسى من الصمت.

الديوان بيدر نجوم، في سماءٍ من رموزٍ ونُتَفِ أسطورةٍ، وبوحٍ وجدانيٍّ، يمضي بين الأسطورة وبين الواقع، يمتزجان حيناً، يفترقان أحياناً، لكنّي وأنا اغوص في كلمات الديوان كنت أشعر أني أحيا، بالفعل، في زمن الأسطورة.

About The Author

Contact