×

قراءة نقدية بعنوان : تجربة الغربة والحنين في ديوان( آدون الشاعر المغترب ) للشاعر الدكتور المغترب ناصر زين الدين. بقلم الشاعرة التونسية : منيرة الحاج يوسف

قراءة نقدية بعنوان : تجربة الغربة والحنين في ديوان( آدون الشاعر المغترب ) للشاعر الدكتور المغترب ناصر زين الدين. بقلم الشاعرة التونسية : منيرة الحاج يوسف

قراءة نقدية بعنوان : تجربة الغربة والحنين في ديوان( آدون الشاعر المغترب )

للشاعر الدكتور المغترب ناصر زين الدين.

بقلم الشاعرة التونسية : منيرة الحاج يوسف

العنوان :

 يكشف العنوان، باعتباره من العتبات التي لابد من التوقف عندها، عن التيمة الأساسية لهذه المجموعة الشعرية دون مواربة أو تخف، وهي تيمة الاغتراب، إذ يختار الشاعر علاقة جلية بين مكوني العنوان؛ آدون وهو اسم علم يحيل على شخصية أسطورية عرفت في بلاد ما بين النهرين مرتبطة بالالهة إنانا أو عشتار وهو رمز للموت وللبعث والخصوبة ويعتبر موته وقيامته، مادة عالية الدلالة، في تيمة الاغتراب، وتفاصيل الأسطورة طقوس ملهمة بما تضمنته من خزين تراجدي يعرض حجم العذاب والمعاناة والاغتراب التي تحملها أدونيس وحبيبته عشتار، أثناء علاقات الاتصال والانفصال، والموت والبعث، والقطيعة والوصال التي عصفت بهما. أما المكون الثاني: الشاعر المغترب، نعت يدعم معنى الاغتراب ويضاعف كمه مما يحدث تواشجا بين المنعوت ونعته ويلمع بمضمون المجموعة قبل قراءتها، إذ لا تنافر بين الرمز المختار؛ آدون والصفة التي اختيرت له؛ الاغتراب بل يحيل كلاهما على الآخر إحالة دقيقة، عميقة فملحمة آدون هي ملحمة اغتراب بامتياز.

القراءة :

وجب البحث في معنى الغربة والاغتراب لغة واصطلاحا لفهم هذه الحالة التي ألهمت الشاعر وجعلت حبره يسيل، بعد أن اعتصرت وجدانه، وهزت كيانه. جاء في لسان العرب: الغَرب الذّهاب والتنحي عن الناس والغربة والغَرب، النوى والبعد. والتّغريب : النفي عن البلد، ويقال أغربته وغرّبته، إذا نحيته وأبعدته.  والتّغرّبُ : البعد، والغَرب النزوح عن الوطن .

وشاعرنا بعيد عن وطنه، غريب مغرّب، مغترب، اضطرته الحرب اللبنانية أن يبتعد ويرحل والقلب منه باق في بلده متعلق بالأهل والطبيعة وكل ما أحبه في لبنان. يقول الشاعر:”أكتب هذه الكلمات التي أحياها دمعي، وأتعبها شوقي… ضائع وأرسم في دفتري رحلة الضياع”.  

أما اصطلاحا : فكلمة غربة تُقال في الاغتراب عن الحال من النفوذ فيه والغربة عن الحق غربة عن المعرفة (معجم المصطلحات الصوفية)  أما الغربة في معناها الأدبي فهي جملة المشاعر التي تعتري المرء لشعوره بالغربة عما يرغب، هي الانفعالات الحادة التي يحولها الشاعر معان جميلة، عذبة.

 يقول الشاعر:

أراك كطفلة

 قل رؤياها إلا في الجنة

خذيني يا عاصفتي الربيعية

سأستقل عينيك

 فانتظريني

 على شاطئك الحزين

 يا غجريتي.

نستنتج من خلال التعريفات السابقة أن الغربة والاغتراب يأتلفان ويتوافقان في الاشتقاق، إلا أن الاغتراب أعمق وألصق بالروح لأنه لا يعني مجرد البعد الجغرافي عن الوطن كما هو حال المعنى البسيط للغربة، إذ مركز الاغتراب ذات الشاعر، منها ينبثق التنافر بين الانسان ونفسه، وبين الإنسان وغيره إنسانا فردا ومجتمعا وطبيعة فتكون مدار الرفض والرضا، موجوعة بتمزقها بتجاذب المتضادات فيها كالحرية والقيد والانعتاق والانغلاق والسكينة والتوتر إلخ…

يقول أستاذ علم النفس  Morton Grodzins: “الاغتراب هو الحالة التي لا يشعر فيها الأفراد بالانتماء إلى المجتمع أو الأمة.”

 والشاعر زين الدين ممزق بين بيروت التي سكنته ولكنه صار غريبا فيها والمجتمع الجديد الذي استقر فيه ولكنه يشعر فيه بالانتماء ولا الاحتواء. يقول في قصيدته بيروت…مدينة (عشتار)

تهدمت الأسوار حول بيروت

وانقشع الغبار

 لابد ان الموت من هدم الديار

 وانقشع الغبار في بيروت

مدينة عشتار

 ادخلي يا عشتار

 حبيبك جريح

فتى الربيع

 ينزف الحب دماء

شوه وجهه الشقاء

ادخلي يا عشتاربلا خوف

(أدد) يرحل مع الشتاء

 شقاء… بعد شقاء.

التناص :

إن ظاهرة الغربة والاغتراب لها جذور ضاربة في الأدب العربي القديم والمعاصر نثرا وشعرا فقد اكتوى بتلكُمُ النار أبو حيان التوحيدي إذ يقول : ” أين أنت عن غريب طالت غربته في وطنه، وقل حظه ونصيبه من حبيبه وسكنه وأين أنت من غريب ليس له سبيل إلى الأوطان ولا طاقة على الاستيطان. إن الغريب من جافاه الحبيب وأنا أقول الغريب من واصله الحبيب بل الغريب من تغافل عنه الرقيب بل الغريب من هو في غربته غريب. الغريب من إن حضر كان غائبا وإن غاب كان حاضرا”.

أما أبو علاء المعري فقد احترق بنار غربة ثلاثية : فقدان البصر/ لزوم البيت / سجن الروح في الجسد. يقول : أراني في ثلاثة من سجوني

 فلا تسأل عن الخبر النبيث

 لفقدي ناظري ولزوم بيتي

وكون النفس في الجسد الخبيث.

ويقول المتنبي معبرا عن غربته :

بم التعلل لا أهل ولا وطن

 ولا نديم ولا كأس ولا سكن

 أما الاغتراب في الأدب الحديث بما هو تجربة نفسية شعورية يعيشها المبدع وتتسم بتمرده على الأوضاع السائدة في مختلف مجالات الحياة وبالتالي حزنه العميق بسبب تدني مجتمعه وتخلف وطنه. وتعد تيمة الاغتراب من التيمات التي تسهم في نسج النص الشعري وتعبر عن رؤى شعرية عميقة تتواشج مع بقية الدوال اللغوية لتضفي جمالية الخطاب الشعري المائز.

وتتمثل غربة الشاعر في تشظي ذاته بين الاغتراب الذاتي الذي ينبجس من إحساس الشاعر بألم الانفصال عن النسق السائد فكريا وثقافيا

 يقول الشاعر:  

أنا أدونيس الشاعر المغامر

 المسافر في الوجود

 قاهر الزمن …

استيقظت وحيدا…  

كما يقول في قصيدة أخرى:  

كان مهاجرا لا يستقر

 لا يعرف

 متى سترسو سفينته في الميناء

 لا يعرف سوى الشقاء

 رحلة كرحلة القضاء.  

ويقول مؤكدا على هذه الغربة :

حينما تحزن عيناك

ينفتح جمال آخر يعذب قلبي

 ويصبح في عالم الغربة

 غربة ثانية تعلمني ألا أنسى

كما يعيش الشاعر اغترابا مكانيا قاسيا فتتحول المدينة إلى إطار يطبق عليه ويختنق فيتعالى منسوب العذاب بما يجترحه من مشاعر الخيبة والانكسار.

يقول: بيتنا القديم تهدم

 لا لعبَ

 لاضحكات

 ولا نوم  ولا ربيع

 لا زهور ولا ثمار

 والبيت تهدم

وفي غزوة الحرب تهدم

 ويعبر عن غربة المكان بقوله:  

وأنا الهارب من الوطن

 هارب من صرخة أم

وبكاء طفل

وظلم جوع.

ويكتب بماء عينه ما يختلج في صدره :

 لكن في زمن الغربة

تحصل صحراء الوطن

 ويحصل بكاء العين

 ويحصل ألا أرى في الدنيا

 إلا هواك.

شاعرنا الموجوع، المفجوع يسير في ليل غربته “عاريا إلا من اهتراءات الزمان ووشم ودماء، في جعبته ليل دون قمر”

لقد تضمخت قصائد شاعرنا بدلالات الغربة تماما مثلما هو الحال بالنسبة للسياب، والبياتي والملائكة وأدونيس ودرويش فالشعر المعاصر جله، نهل من معين الغربة ففاضت القصيدة بأوجاعها كاشفة عن ذات تتجرع مرارة واقعها السياسي والاجتماعي فتقاطعت النصوص الشعرية وتقاربت ولم يفرقها إلا اقتدارات الشعراء ومهاراتهم وتمايزهم في استعمالات اللغة وتشكيل الصور.

اللغة والأسلوب:  

تميزت لغة الشاعر بالتجديد في الشكل التعبيري، ومن خلال تجربة الغربة والحنين سحب على نصوصه نغمة الكآبة والحزن العميق وسكب أنينا عبرت عنه الجمل القصيرة المبتورة أحيانا دالة على اختناق الشاعر وما يكابده من جحيم الاغتراب في المكان وفي الحب وفي الوجود يجعله يبتلع اللغة كما يبتلع الغصة ويرسم لوحات خاطفة عبر هندسة قولية فريدة لا يجيدها إلا مهندس ماهر خبر اللغة وأسرارها، تميزت بالانزياح عن النمط المتواضع عليه من خلال طرق عدة منها اعتماد كلمات ذات ثقل تكراري وتوزيعي في النص الواحد أو على امتداد كل النصوص في الديوان فأحدث ذلك إيقاعا متفردا بديعا ولعل الجذر (غ،ر،ب) تميز بحضور لافت تبرره التيمة التي اختارها الشاعر فورد فعلا مجرد ومزيدا واسما مشتقا متنوعا يقول: “أنت والقمر ،غرّبت عنكما، لحنا غريبا أسمع.”  “ولا يرى سوى أرض غريبة وأغرابا.”  “بيروت…أعود إليك يا أمي… من غربتي”

هذا التكرار نلحظه في كلمات كثيرة مما يحدث تماثلا صوتيا ناهيك عن الصور التي رسمتها الاستعارات المتنوعة التي اختارها وما تصنعه من جمال النص بفضل شحنة التكثيف والانزياح.

الأسطورة والرمز:

عشتار من الأسماء التي تكررت على امتداد النصوص بل مثلت ركيزة فنية لا يمكن الاستغناء عنها وهي قرينة أدونيس، آلهة للحب والحرب والجمال، والتضحية، وهي ملكة الجنة، وفي بعدها الجحيم، وهي نجمة السماء والمساء، هي أنثى الموت والانبعاث والخصب والحياة والنماء والرواء والوفاء لم تقدر على فراق آدون فبعثته حيا لتستعيد معه عذوبة الوصال وحياة الخير والجمال، لهذه الأسباب لا نستغرب اختيار الشاعر لها وهي الرمز الذي يحيل على بيروت الأم الرؤوم، العزيزة، وعلى الأنثى الحبيبة، الزوجة، التي أهداها الشاعر عصارة إحساسه وقد أيقن أن لا خلاص بعيدا عنها لأنها بارقة الأمل في غربته الطويلة والحضن الدافئ الذي يخفف صقيع الغربة ويذيب ثلوج كندا التي تحاصره، فتلتهم الفصول، وتكفنها ببياض متواصل ولا سبيل إلا إلى ربيع عينيها يقول :

يصيح، عشتار، عشتار

تعانقا كالبدر في ساحة السماء

 يعانق المساء

 آلهة حب وخصب وجمال.

عشتار ألا تدرين

 أنّ شاطئك في موعد

 ألا تدرين أن الحلم يكبر ويغرد.

انتظرتك يا اميرة الحب

يا نجمة الشقائق

 يشهد لي نهر إبراهيم

 واشهد لك

 أنني لا أجد امرأة مثلك

 لتكون عشتاري.

في الحقيقة تحضر الأنثى الخلاص والجمال في كل القصائد وهو ما يبرر تعلقه بها وعشقه إذ يقول: أقول ودوما أحبك قربي

 وأنت الحنين

 لتبقي جراحي

وأبقى هواك

 لتبقي دموعي وأبقى مناك

 لتبقي وعودي وأبقى لقاك

 سأبقى إلها يصيغ رباك

 وأنت الوجود .

خاتمة :

إن الدّيوان بما تضمنته نصوصه من أسطورة ورمز وظفهما الشاعر توظيفا إيحائيا جديدا وجميلا في آن وما توسله من لغة شعرية بسيطة لكنها عميقة من خلال الصورة التي ابتدعها بواسطة استعاراته وبديعه وأدواته الفنية المتنوعة الأخرى نجح في أن ينقل للمتلقي مشاعر اغترابه وحنينه وأنينه ويقلص المسافات التي تفصله عن وطنه العربي وأحبته فيه. وجعله متراوحا مثله بين يأس وأمل.

About The Author

Previous post

تموز والاغتراب، قراءة سيميائية في العنوان في ديوان “آدون الشاعر المغترب” للشاعر ناصر زبن الدين بقلم الناقد منذر فالح الغزالي في الحلقة الثالثة من (ناقد وكتاب) لغرفة النقد الأدبي

Next post

شعر المهجر وخصائصه في القرن الحادي والعشرين، وضعية نقدية عن شعر الحنين إلى الوطن في ديوان (آدون الشاعر المغترب) للدكتور ناصر زين الدين اللبناني المغترب في كندا، بقلم الأديبة سمر الديك/ فرنسا

Contact