×

خيطُ الدِما من بغدادَ إلى الشامِ… قصة قصيرة//بقلم مديح الصادق// العراق

خيطُ الدِما من بغدادَ إلى الشامِ… قصة قصيرة//بقلم مديح الصادق// العراق

خيطُ الدِما من بغدادَ إلى الشامِ… قصة قصيرة

بقلم مديح الصادق… من العراق

عنه بعيداً تدحرجت عربة من أسموهم، مجاملة، ذوي الاحتياجات الخاصة، وعلى هواها راحت تتقلب حرة طليقة في واد عليه أشرفت دار هرمة من آجر صدئ، وكوى كضيق رزقه مذ ترك الوظيفة، وما ملكت يداه؛ في بغداد قسراً، إذ عليه تكالبت قوى الظلام من كل لون، ذلك الذي امتطى دبابة الأمريكان واستباح العباد وما بأيديهم من متاع، وذلك الذي أطال اللحية وقصَّر السروال والثوب، وكلهم إلى كتاب الله زوراً يحتكمون، فما نالت منه عبواتهم غير ساقين بهما كان يحث الخطى، ليُطعم خمسا ممن أوصى الله بأنَّ من يرعاهُن؛ يُفلت من حسابه يوم الحساب، ورماداً معه تناثرت أبيات شعر حكت عنه وسوسات شياطين الصِبا، وأولى المغامرات، فتح الصنبور على شجيرات الياس، دفن الساقين تحت الزيتونة تذكارا، واستبدلهما بعكَّازتين به تحْديان إلى حيث غطَّت بنومها دولة أجداده الآراميين.

جرمانة ليست ككل ليلة، أنوارها قد خفتت، وأمست حزينة واجهات محال تجارية اعتادت أن تسامر مُرتاديها حتى الفجر، وتحضن جُلاَّسَها بدفء خرافي، هرب المُغنُّون من مكبرات الصوت، ومن على الجدران اختفت صبايا جميلات راقصات، وما عاد في المخازن من فائض الطعام كي يرتجي خازنوها مزيدا من العملاء، أما الحانات وما يباع فيها فقد أعلنت التوبة واستغفرت ربها مع دوي أول انفجار وسط الحي، حيث استعصى على الآباء لمَّ شتات أشلاء لأطفالهم تناثرت على أرصفة نظيفة كانت، واصطبغت بدمائها الجدران، وأمّ على صغيرها انحنت، إلى صدرها بقوة تضمُّهُ؛ توهَّمت أنها من الموت قد تحميه، وهكذا تفعل الأمهات، في بغداد، أو في دمشق، وعلى مثل هذا اعتاد النافذون بجلودهم من محارق الطوائف وتجار الدين عبر بوابات الحدود، سائلين عن زوايا بها تطمئن القلوب، وتهنأ النفوس؛ لعلَّ وفداً من دولة بعيدة يرأف بحالهم فتهتز أبدانهم طربا لمكسب به يحلمون، إعادة التوطين.

 لم يُعِر اهتماما لعربته التي انزلقت، فنامت في قعر الوادي بانتظار أن يتبعها؛ وفاءً لما بينهما من ملح وزاد، بعكازته رفس الباب بعنف صرخت معه مزاليجها التي غنَّى طويلا عليها الزمان، وعليها تعاقبت أنامل المهاجرين من أرض السواد في كلا العصرَين، عصر انفراد واحد من الطغاة في إذلال بني الإنسان الكرماء، وعصر انقلاب ضحاياه على أهلهم مُستسيغين دماءهم، وبما يملكون مُتلذذين، أما من اتصال هاتفي يقشع عنَّا الخوف على البنات؟ لقد فات موعد عودتهن من أعمالهن؛ صرخ بأعلى صوته مثل أصمٍّ تملَّكه الخوف، ألم أنهاهُنَّ عن الذهاب هذا اليوم؟ كفى، كفى بالله، أن يقعدن في البيت، ونأكل من بقايا المزابل؛ لأهوَنُ عليَّ من أن أرى فيهُنَّ ما لا أتمناه، أو أن أعود أدراجي من حيث أتيتُ عارياً؛ لعلّي أجد قبراً جوار أهلي الذين مُرغما فارقت، عليكِ اللعنة يا محطات المهاجرين، فعلى أعتابك تُذلُّ أنوف، وفي دهاليزك تذوب كرامات، وما فتات خبز به تتكرم منظمات إنسانية يديرها اللصوص إلا جرعات تخدير ليحرقوا ما لهذا اليوم اختزنوا من (صايات وصرمايات).

ما من مجيب سوى صدى عربته التي فارقته واستقرت هناك، وجدران تآكل الطلاء منها؛ فعجزت عن تنظيف رذاذها ربة البيت حتى تراكمت على كل الجهات، حالها يشبه همَّاً عشعش في صدر من أحاطت به في ليل بهيم قطعان الذئاب، فلا هي عنه براحلةٍ، ولا إلى النجاة لديه سبيل، أيها المسكين، عبد الله، ليس سوى العزاء بما هُم عليه جيرانك يُنجيك مما على صدرك غمّ، والغريب نسيبٌ للغريب، كرِّر الصوت، ما من أحد يرد، يا امرأة، لقد أفاق الأموات من قبورهم وأنت لا تسمعين، أين هنَّ البنات الصغيرات الباقيات؟ ألم يعدن من المدرسة بعد؟ لقد تعدى الوقت بساعتين، تراقصت كتفاه وردفاه، وما تبقى من ساقيه، تشبث بالعكازتين كي يحكم السيطرة على جسده الذي انهار فلم يحمله إلى باحة البيت، في جوفه انحبست صرخة لو انطلقت لاهتزت لها الأرجاء، كادت أذناه تنفجران، العرَق من وجنتيه لم يأبه ببرد كانون، شعرات بيضاء يتيمة انتصبت واقفة على المفرقين، بكل ما تبقى له من قوة ضرب الباب، على أحجار عتبتها استقر قفاه، برأسه مالَ صوبَ الجدار، دمُهُ بارداً كانَ، وصوت مزاميرها بعيد جدا، جدا جدا، عربات الإسعاف، وصفَّارات الإنذار.

About The Author

Contact