×

عبد الجبار الفياض ، ضياع الحلم والنقش على شواهد القبور// الدكتور صالح الطائي

عبد الجبار الفياض ، ضياع الحلم والنقش على شواهد القبور// الدكتور صالح الطائي

من إحتفالية الفياض في ذكرى وفاة السياب .

عبد الجبار الفياض ، ضياع الحلم والنقش على شواهد القبور

الدكتور صالح الطائي

الشعر روح الفلسفة، والفلسفة غذاء الشعر، العلاقة بينهما كالعلاقة بين الماء والهواء، لا تستقيم الحياة بأحدهما، فجوهرها خلق من كليهما، وبني من تأملات وجودهما ليخلق فضائا يجمع كل ألق الدنيا في كأس قلب أنهكه البوح، وأصبح يبحث عن متنفس بين الأحرف والكلمات، فلا يجد سوى صدى أنفاسه يتردد في متاهات اللاوجود ينعى الوجود، واللاحياة تنعى الحياة.

أعطت الفلسفة بكل تعقيداتها للشعر بعده الروحي، وأخذت عنه بعده الجمالي، فتعادلا كفتي ميزان جمال ورقي، وربما أنفة وكبرياء؛ من سنخ ماهيتهما الغرائبية ووجودهما العجائبي. ومن أجواء هذه الألفة الحميمية بين مشاعر الروح، وأحاسيس القلب، وإشعاعات الفكر المطلقة، انطلق المفكرون يقاربون بين الفلسفة والشعر والمقدس والفن والجمال، فاتخذت الخلاصة مسارا تاريخيا، يرصد تطور هذه الإشكالية الشرسة إلى حد التوحش، والناعمة إلى حد الخدر، هذه العلاقة التي تمتد آثارها على امتداد الفكر البشري، منذ لحظات وجوده الأول على سطح كرتنا الأرضية الصماء، يوم كان طفلا آدميا يحبو بحثا عن موطئ أمان، وصولا إلى مراحل تألقها في أجواء الحضارات الفارسية والإغريقية والرومانية والإسلامية، يوم شخصت أعمدة الحكمة وهجَاً يخطف الأبصار، ويسلب الألباب، حينها وبكل كبرياء الواقع، انتصب الإنسان طودا شامخا، يناطح السحاب، مرورا بعبثية وثورة وتحدي وضوضاء الفكر الحديث، حتى انتهائها في مرحلة المعاصرة بكل الفوضى التي ترتسم على محياها.

وفي كل هذه المراحل كانت انعكاسات شواخص جنس الفلسفة وجنس الشعر تتحد لتكوِّن جنسا من جنسين، هيمن بقواه الخفية على الثقافة والعقل. ومن هنا، من نقطة الشروع القلقة هذه، ولدت الأطروحة التي لا تشبه نفسها، أطروحة التحدي اللامعقول المفعمة برؤى أرسطو وأفلاطون وسقراط والفارابي والقديس أوغسطينوس والكندي ويوحنا الدمشقي وأبن سيناء والقديس توما الاكويني والغزالي وابن طفيل وابن باجة وابن خلدون وديكارت وفرنسيس بيكون وكانت وهيكل وشوبنهاور وابن النفيس كيركيغارد، لتغتال خلوات امرؤ القيس وطرفة بن العبد والحارث بن حلزة وعمرو بن كلثوم وعنترة بن شداد وعروة بن الورد وأحيحة بن الجلاح وعمر بن أبي ربيعة والمتنبي والبحتري والمعري وشوقي وعبد المحسن الكاظمي والجواهري ومصطفى جمال الدين.

هذا التواشج المصيري؛ هو الذي ولَّد السيميولوجيا التي بحثت عن العلامة، عن الرمز الدال على المعنى المقصود في محاولة لم تكن اعتباطية لربط التواصل بين سعي قلقميش الجاد بحثا عن ماء الحياة، وسعي الشعراء وراء حياة الحياة، في لحظات تجلي الرمزية والدلالة الحقيقية للوجود نفسه. وكم هو عظيم ذلك الإنسان الذي نجح باختزال الوجود بكلمة، والكون بفكرة، وكلاهما يغريان المشاعر بفيض الوهم الوجعي، فالإنسان لو لم يكن أقوى المخلوقات لما بقي وتطور وتمدن وتقدم في الوقت الذي انقرضت فيه الديناصورات. الإنسان هو ديناصور المعرفة وعملاق الفكرة، وسيد البحث عن الأسباب والمسببات.

قد تكون هذه العلاقة الجدلية غير خافية، بالرغم من الضبابية المحيطة بها، ولكنك تتوسمها بوضوح في أجواء قصيدة “نقش على شاهدة” للشاعر البصري الكبير عبد الجبار فياض، فهي قصيدة ليست من نوع الملهاة بقدر كونها تفاعلا يبعث على الأمل بالرغم من ومضات الوجع السابتة فيها، هكذا شعرت وأنا أراه يقدمها إلينا مشفوعة بجملة “السياب يموت غدا”، فأي سياب هذا الذي لا زال حيا يتحدى أوجاع المرض وفراق جيكور؛ وهو الذي كان مغرما إلى حد اليأس والمرارة بشناشيل بنت الجلبي وغابات النخيل وساعات السحر والشرفات التي ينأى عنها القمر؟!

أي سياب هذا الذي لا زال يتغني بالكروم المورقة والمجذاف الذي يهز صورة القمر المرتسمة على وجه الماء والمطر؟

هل هو تجلٍ لروح السياب الذي نعرفه والذي غادرنا منذ زمن جميل طويل بذات شاعر تنفس مثله عبق البصرة؟ ألا نفهم ذلك من قول:

عُذراً شريانَ قصائدي

عشّاري الجّميل

أرسمُكَ على مساحةِ سريري

أمشيكَ كُلَّ يومٍ بلفافةِ تبغٍ من وريد . . .

رجلاي متعبتان

تحملاني من فراشٍ مُتذمرٍ لطولِ رقاد

تطوفانِ بي

أقفُ متوسّلاً بأنفاس

تختفي بدهاليزَ مظلمةٍ تحتَ ساعةِ السّورين ومضاتٍ بعدَ وهج . . .

تقذفاني في بطنِ سوقِ الهنود

وهل من إشارة أكبر من هذه الإشارة إلى تلك التواصلية التي ترسم صورة المعاناة التي كابدها السياب وقد تجددت بعد عقود لتتلبس روح شاعر بصري معاصر؟

وأي معاناة تلك التي تدفع الشاعر الفياض ليرفع نداءه الذي يفضح فيه ما فعله إخوة يوسف عصرنا؟

أنبأني راءٍ

أنَّ إخوةً يأكلونَ على بساطي

ما حرّمهُ إسرائيلُ على نفسه . . .

يزورونَ بيتي

كُوّتي الصغيرة

ألبسوها مِعطفَ ماكبث

أفرغوا عُلبَ الماكياج على عذراواتِ الطّين

ينبشون الذّكرياتِ بسكينٍ صدئِة !

لقد زرعت هذه التواصلية في روح الشاعر الفياض فيضا من العنفوان الثوري، ولأنه شاعر، لأنه حافي اليدين، لا يحمل بيده سكينا، ولا راية سوداء، ولا يُكَبِّر، ولا يرفع إبهامه، ولا يتهدد أحدا، لم يجد سوى الكوميديا السوداء ليعبر من خلالها عن فورة حزنه عله يخرج من حالة الاختناق، فيتنفس:

سيزارُ بعدَ سنين

يُعطى مدرسة

شارعاً

مذخرَ أدوية

قصاعاً من ثريد

بعضَ زجاجاتٍ من مُعتّق

رُبَما سورةِ الفاتحة !

هكذا إذا، تحولت المقطوعة إلى رواية تسرد قسوة الشعور بالهزيمة الذي نعاني منه، الخيبة التي ترتسم على ملامحنا، بعد أن ماتت تلك الأحلام الوردية التي كنا نرقب تحققها بلهفة كل سنين الظلم والظلام، لنجد أنفسنا لما نزل محصورين في نفس الحيز الضيق الذي فُرض علينا قسرا:

أوّاه

ما زالَ منزلُنا الكبيرُ يغرقُ بالظّلام

أرى النّوافذَ مُغلقة

لكنَّما الأبوابُ مُشرعة

بلا أقفال

كُلُّ المفاتيحِ في حوزةِ علي بابا والمليون . . !!

كما قرأتُ ذلكَ في شريطِ الألمِ اليومي.

لقد أجاد الشاعر الفياض في ومضاته الفلسفية التي انضوت عليها قصيدة ” نقش على شاهدة”، وقد بدت صورة العلاقة بين الفلسفة والشعر واضحة في أجوائها التي تصطرع فيها السعادة والحزن، وهذه أقسى المراحل التي يمر بها الإنسان الذي أضاع حلمه.

نقش على شاهدة

( السّيابُ يموتُ غداً )

ألقى ما أثقلَهُ سَفَطاً في جوفِ الخليج

آلامَه

جيوبَهُ الخاوية

ألقابَاً لم تأْتهِ بشروى نقير

عملةً مُلغاة

رُدّتْ بوجهِه

شربَها كأساً فارغة . . .

عادَ عارياً

ليتوسّدَ ذراعَ الحسنِ البصريّ

يقبّلهُ الخليلُ معاتباً . . .

. . . . .

شناشيلُه

الموشّاة بخيوطِ شمسٍ سومريّةٍ

تنقشُ السّمرةَ على جلودِ الحُفاة

مشقتْها من قبلُ على جبهةِ ديموزي

أثداءِ عشتار . . .

أنَ تُعادَ لها الألوان

والدُهان . . .

ما زالتْ ابنةُ الشّلبي

تشربُ الزّمنَ بزجاجةِ كولا والمطر

تضعُ كرّاسَها على شرفةِ انتظار

غادرَهُ الرّصيفُ

الظّلُ

يذوبُ بظلامِ يأسٍ شعراً

يحفرُ أسماءً على جذعِ شجرةٍ ميّتة !

. . . . .

نم نم جيكور

لفجرٍ قد لا يُريكَني

غفوتُ عنكَ بعيداً

لم أتعبْكَ بعدُ لغسلِ عيوني كُلَّ صباح

فقد غسلتُها للمرّةِ الأخيرةِ من ماءِ طفولتِنا معاً دونَ أنْ تدري

لم أردْ أنْ أيقظَك من اغفاءةٍ تحتَ ظلال باسقاتٍ

هُنَّ الأطولُ من كُلِّ عهودِ الظّلام

بسطْنَ أمامَنا النظرَ إلى السّماء

ما دونَهُ تسوّل في دروبِ الإنحناء !

. . . . .

آلامُ بروموثيوس

أيوبِ النّبيّ

فارتر

مثلثٌ

صارَ معي مُربّعاً مُغلقَ الجّهات

حدَّ الاختناق

تابوتاً

أودعتهُ أنا

وآخرَ القصائد . . .

لستُ محسنَ السعدون

همنغواي

رصاصتي

لم أزلْ أحشو بها ثُقباً في رئتي . . .

. . . . .

عُذراً شريانَ قصائدي

عشّاري الجّميل

أرسمُكَ على مساحةِ سريري

أمشيكَ كُلَّ يومٍ بلفافةِ تبغٍ من وريد . . .

رجلاي متعبتان

تحملاني من فراشٍ مُتذمرٍ لطولِ رقاد

تطوفانِ بي

أقفُ متوسّلاً بأنفاس

تختفي بدهاليزَ مظلمةٍ تحتَ ساعةِ السّورين ومضاتٍ بعدَ وهج . . .

تقذفاني في بطنِ سوقِ الهنود

ما ازدحمتْ به النهودُ

ممالك البهار

البخور

القهوة

السندُباد يُبحرُ على الأرض . . .

. . . . .

أنبأني راءٍ

أنَّ اخوةً يأكلونَ على بساطي

ما حرّمهُ اسرائيلُ على نفسه . . .

يزورونَ بيتي

كُوّتي الصغيرة

ألبسوها مِعطفَ ماكبث

أفرغوا عُلبَ المكياجِ على عذراواتِ الطّين

ينبشون الذّكرياتِ بسكينٍ صدئِة !

. . . . .

ما فتئتُ بينهم أحتضر

وهم يلّفون سكراتِ الموتِ بورقِ الزّينة

كي لا أموتَ ثانيةً

ثالثة . . .

توقّفوا

قفوا أمامَ المرايا قليلاً

لو . . .

ما كانَ ما كان . . .

بينكم مَنْ يتكأُ على منسأةِ سليمانَ النّبيّ

مَنْ يعاشرهُ الدودُ

من غيرِ نداءِ نُدبة

لم يمرْ ببابهِ عروةُ بن الوردِ أيّاماً

فاحتسى الماءَ بارداً. . .

. . . . .

كل في بيته

ما عدا المطر

يتجوّلُ بالشوارعِ منفرداً. . .

قفوا قبلَ أنْ تحملَهم سيارةٌ مُستأجرة

سائقٌ وصديقان

حفّارُ القبورِ

يتثاءب . . .

جنازةٌ بائسة

ألم يكنْ لهُ . . .

. . . . .

سيزارُ بعدَ سنين

يُعطى مدرسة

شارعاً

مذخرَ أدوية

قصاعاً من ثريد

بعضَ زجاجاتٍ من مُعتّق

رُبَما سورةِ الفاتحة !

. . . . .

أوّاه

ما زالَ منزلُنا الكبيرُ يغرقُ بالظّلام

أرى النّوافذَ مُغلقة

لكنَّما الأبوابُ مُشرعة

بلا أقفال

كُلُّ المفاتيحِ في حوزةِ علي بابا والمليون . . !!

كما قرأتُ ذلكَ في شريطِ الألمِ اليومي

كنْ سخيفاً تعشْ سعيداً !

مسحتُ كُلَّ ما كتبتُهُ عن المومسِ العمياء

المخبرِ السّريّ

السبعِ اللائي عشقتْ . . .

احتفظتُ باسمٍ تدورُ به الاسطوانة

عراق

وإذا روحي تعود

تشربُ عينُهُ عَتمةَ قبري

فيشرقُ من محاق

أنْ أرضي ولود

سيضاجعُها المطرُ ذاتَ يوم

يهزُّ نخلتَها

جا ء

المهدُ يضيق

فلْيشربِ الشّيطانُ دمَ المَخاض !!

. . . . .عبد الجبار الفياض

About The Author

Contact