×

قراءة في ديوان أحضان الوجع للشّاعرة هدى عزّ الدّين/مصر. بقلم الدكتور باسل الزين/ لبنان

قراءة في ديوان أحضان الوجع للشّاعرة هدى عزّ الدّين/مصر. بقلم الدكتور باسل الزين/ لبنان

قراءة في ديوان أحضان الوجع للشّاعرة هدى عزّ الدّين/مصر

بقلم الدكتور باسل الزين / لبنان

قادمٌ من فضاء الإيجاز والتّكثيف، أحملُ بُعدًا نقديًّا قَبليًّا صاغته التّجارب، وحكمته جملة تصوّرات فلسفيّة. فمعذرة إن جاءت قراءتي موجزة ومُكثّفة، تنطوي على جملة آراء نقديّة تحتمل الخطأ والصّواب.

تنكشف اللّعبة الدّلاليّة لديوان أحضان الوجع منذ العنوان. فالشّاعرة على درايةٍ تامّة بأنّ القولَ الشّعريَّ تحكمه بنية الصّورة الشِّعريّة القائمة، في أبهى تجلّياتها، على ربط الحسيّ بالمجرَّد والعكس بالعكس. من هنا انضاف الحسيّ الحضن إلى التجريديّ الوجع في محاولةٍ للقبض على الصّورة الشّعريّة في أقصى تطلّبها الشّعريّ، وتشكّلها التّخييليّ. والحال أنّ قصائد الدّيوان بأكمله نُسِجت على المنوال نفسه. لذا آثرتُ تقسيم قراءتي إلى قسمين اثنين، أتناول في القسم الأوّل منها طبيعة تجربتها الشّعريّة، على أن أستجليَ في القسم الثّاني التّقنيّة الأسلوبيّة، وآليّات تشكّلها.

أوّلًا: التّجربة بين الانفعال والافتعال

لا شكّ في أنّ الدّيوان المذكور ينطوي على تجربة رصينة، تعتمل فيها المشاعر الجادَّة، والمعاناة الحقّة. الحقّ أنّ الشّاعرة استجلت مراتب القول الشّعريّ بدءًا من التّجربة الفرديّة الآنيّة، وصولًا إلى الفضاء المسكونيّ الكليّ، أو ما يُصطلَح عليه بالتّجربة الوجوديّة.

ما بين هذين الحَدَّينِ تنوّعت التّجربة واغتنت، وارتسمت تصوّرات واحتجبت، وتأرجحت المعاناة بين قولٍ طغت عليه سطوة الانفعال المستنير، والسّوداويّة المتبصِّرة، والحزن البليغ. “الوقت عقربٌ/ نبش اللّيلُ قبره/ البعدُ كاهن مقدّس/ صمتٌ يُثرثر…”، وقولٍ لم تصطبرْ فيه الشّاعرةُ على جذوة المعاناة، بل كشطت ما استبان منها على أديم المعاناة المستلَبة، والاندفاع غير المصقول، فوقعت في فخّ المباشرة، فلم يستقم القول شعرًا بل استقام نثرًا “الهوى يُباع على أرصفة المتعة/ اخطفني أيّها القبطان/ فخطواتي موسيقا حرمان/ دُسّني حلمًا على وسادة الزّمان”. غنيّ عن القول إنّ التّقفية هنا جاءت مفتعلة بخلاف التّجارب الانفعاليّة الصّادقة التي شكّلَ الرّمز نواتها، وحكم بنيانها “يدُ الحبّ تُداعب الدّهشة على سرير الجنون”. وما يُثير الدّهشة والاستغراب أن تنطوي قصيدة بعينها أو أكثر على تناوب غير مُفسَّرٍ بين الانفعال المصقول المـُتخَم بالشّاعريّة، والافتعال الذّهنيّ المـُشبَع بالنّثريّة.

ثانيًا: التّقنيّة الأسلوبيّة

لا أُغالي إذا قلتُ بأنّ الشّاعرة تمتلك بصمةً شعريّة خاصّة بها. الحقّ أنّ شعراء طارت شهرتهم، وذاع صيتهم، لم تَعدُ تجاربهم كونها استنساخًا لتجارب أخرى، لغةً ومضمونًا وسبكًا وتخييلًا وتصويرًا. أمّا شاعرتنا، والحقّ يُقال، فقد اختطّت لها دربًا شعريًّا خاصًّا بها، واحتازت أسلوبًا مميّزًا وَسَم تجربتها. ومع ذلك – ونحن هنا في محفل نقديّ رصين – ثمّة هنات – برأيي – ينبغي لنا الوقوف على أبرز عناصرها.

أ – السّرديّة

لا شكّ في أنّ التقنيّة السّرديّة طبعت قصائد شعراء كبار، وحكمت تجربتهم، لكنّها تقنيّة مُتقَنة لا تُعتِّم أن تخدم طبيعة التّجربة الشّعريّة، وتأتمر بسطوتها. أمّا ديوان شاعرتنا، فقد حكمت بعض مفاصله سرديّة غير مُحبَّذة، أتت في مواضع كثيرة على عمق التّجربة الشّعريّة، وسلبتها تألّقها. الواقع أنّ السرديّة مثلت بقوّة من خلال الاستخدام المتتالي للأفعال الماضية، فجاءت الجمل فعليّةً أضفت الحركيّة وانتزعت الدّهشة “قصيدة طفلة المواسم/ قصيدة معبدي النّفيس…”.

ب – المباشرة

حقيقة الأمر أنّ نصّ الشّاعرة يدور في فلكين متباينين: فلك الانفعال، وتكون لغته شعريّة محض، وتصاويره رمزيّة. وفلك الافتعال، وتكون لغته مباشرة، وتراكيبه عقليّة محض. وأعني بالمباشرة أداء المعنى على غير تعتيم، وسكبه سكبًا في قالب لغويّ تعليميّ أو حكميّ أو وعظيّ “لا أدّعي القداسة ولا النبوّة/ ذبح الثّقة ليفتدي العجز/شرّع الجريمة/ يُقاضي الوفاء”. ومع ذلك، تُطالعنا الشّاعرة بقدرتها الرّائعة على التخلّص من المباشرة، وتقديم صور شعريّة تنضح رمزيّة وشاعريّة “ثورتي تنام على فراش الخيبة/ وساعدي كسرته قلّة الحيلة”.

ج – طبيعة الصّورة

صحيح أنّ بنية الصّورة الشّعريّة في هذا الدّيوان بنية رصينة تعمد إلى ربط المجرّد بالحسيّ، إلّا أنّها لم توفّق دائمًا في هذه الإضافة، بحيث أتت بعض الصّور هجينة، لا سيّما بجهة لعبة المتناقضات. الواقع أنّ لعبة المتناقضات تقتضي تلاؤمًا دلاليًّا تفرضه طبيعة التّجربة. ممّا لا شكّ فيه أنّنا نعثر بين طيّات هذا النصّ الجميل على تركيبات لغويّة تزاوج بين المتناقضات بشكل مميّز، لكنّنا نعثر في مواضع أخرى على مزاوجات غير موفّقة من مثل “سرد يُدهش مسامع العيون (المزاوجة بين السّمع والبصر غير موفّقة)/ أقام الكفر صلاته/ لحم الرّخاء”.

في مطلق الأحوال، تبقى تجربة هذا الدّيوان تجربة حقيقيّة، تنطوي على شاعريّة وجديّة ورغبة في القول الجريء، والنقد الاجتماعيّ والذّكوريّ والوجوديّ والدّينيّ والمؤسّساتي.

إلى ذلك، تُعوِز الشّاعرة تقنيّة الإدهاش المتأتية من الاصطبار العظيم على التّجربة، وتلمّس الخيال في أبهى تجلّياته. فهذه التّقنية، وإن تحقّقت لها في بعض المواضع، إلّا أنّها تحتاج إلى مراس كبير، وتدبّر عظيم في الإنصات إلى نداء التّجربة الذي يصمّ آذاننا، ومحاولة التّهدئة من روعه، والعزوف عن القول إلى حين تكوّر اللّفظ، واستقامة المعنى.

About The Author

Contact