×

مفهوم القصة القصيرة جدا من كتاب / (مفهوم القصة القصيرة جدا وعجلة الحداثة) /بقلم: الناقد الدكتور مختار أمين // مصر

مفهوم القصة القصيرة جدا من كتاب / (مفهوم القصة القصيرة جدا وعجلة الحداثة) /بقلم: الناقد الدكتور مختار أمين // مصر

الدكتور مختار أمين ـ يكتب

مفهوم القصة القصيرة جدا
من كتابه / (مفهوم القصة القصيرة جدا وعجلة الحداثة سنة 2014)

لا يكاد يختلف أحد من الباحثين في أن الفن العظيم كان دائما وعبر كل العصور، هو ذاك الذي يمثل خرقا للعادي اليومي من مألوف القيم والأشكال الجمالية المضمونية، أو اللغوية، بل تكاد تنسب إلى الخرق للمألوف والمستقر من القيم، وكل التطورات والإبداعات التي تشمل حقول الثقافة والأدب والفنون والعلوم، وحتما إن هذه الدوافع تتأثر جدليا بما تفرضه الحضارة المعاصرة من تكنولوجية، وبيئة سياسية، واجتماعية، واقتصادية، وما ينتج من إشكاليات في تلقي وتقبل هذا الصنف الحداثي أو ذاك، وهذه الإشكاليات تلعب دورا بارزا في ترسيخ هذا الفن فضلا عن المبدع، الذي يكون أداة تنفيذية تحرك وتهز مربعات الصورة النصية فيعاد تنسيق هذه المربعات لتظهر لنا صورة نصية جديدة، فالمبدع وبوعي مسبق يقوم بتشكيل منتج جديد يحمل سمات جنس أدبي معين مع الاحتفاظ بخواصه الذاتية، وعلى أساس هذه الإشكاليات والدوافع تتحول بنية الخطاب الفني للقصة إلى كتابة أشكال وحداثات بحسب التحولات التي تحدث في الواقع، لأنه من العسير أن تنتاب الواقع تحولات في بنيته الأساسية دون أن تتحول معها بنية الخطاب القصصي، فبسبب المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تظهر طاقات منتجة تتدخل في تغيير المكونات النصية..
أما على مستوى الخطاب القصصي، أو على مستوى الشكل، فليس الهدف رغبة عابرة في التلاعب بالمعيار الكمي للنص، وإنما الرغبة الملحة في التغيير لابد أن يكون وراءها دوافع جوهرية نابعة من متغيرات الحياة التي نعيشها، وبالتالي اهتمام الكاتب والمتلقي على حد سواء بهذا الجنس الأدبي لم يأت من فراغ، وإنما استجابة لمجموع تلك المتغيرات المعقدة والمتشابكة التي أقلقت نمطية الشكل والخطاب في القصة، وما تزال تقلقهما، فضلا عن إيقاع الزمن السريع الذي يستوجب قراءة النصوص القصيرة جدا بعدما عزف المتلقي عن القراءة نتيجة غزو التكنولوجيا ومفردات الحياة اليومية ذات الإيقاع السريع والصاخب، وان كان هناك من أعاد نشأة القصة القصيرة جدا إلى أصول قديمة قدم الحضارة الفرعونية، والبابلية، والسومرية، والأشورية، وهناك من يعد هذا الجنس تحديثا للمقامة، وألف ليلة وليلة، أو أنه تطويرا لفن الخبر في تراثنا، وبخاصة الأخبار التي تمازج بين المفارقة والسخرية، ولا يهمنا فيما إذا كان للقصة القصيرة جدا هذه الجذور التاريخية من عدمها، وإنما يهمنا تاريخ تشكل ملامحها بالصورة التي هي عليه الآن، ونقدمها على أنها جنس أدبي مستحدث له سماته الخاصة ويحمل مقومات نجاحه وديمومته.
فنشأة القصة القصيرة جدا الحديثة ظهرت في أمريكا اللاتينية مع بدايات القرن العشرين لتنتقل بعد ذلك إلى أوربا الغربية، ثم رهصت في العقود الأخيرة من القرن العشرين في بلاد الرافدين والشام وخاصة سورية وفلسطين، وظهرت في المغرب وتونس بشكل متميز وناضج في بداية الألفية الثالثة، ولأن للمغرب خصوصية في غلبة المشهد القصصي على الشعري؛ فأننا نستطيع تتبع مراحل تطور هذا الجنس الأدبي في المغرب كأنموذج -على الرغم من تأخر ظهوره في المغرب نسبة للعراق والشام- لبيان أهمية هذا الجنس الأدبي وأحقيته بالتعايش السلمي مع الأجناس الأدبية الأخرى والكف عن محاربته.
حظيت القصة القصيرة جدا في المغرب باهتمام كتّاب القصة أمثال: محمد إبراهيم بوعلو، ومحمد زفزاف، وأحمد زيادي، وأحمد بوزفور، وزهرة زيراوي، وحسن برطال، ومصطفى لغتيري، ومحمد تنفو، وعبد العالي بركات، وسعيد بو كرامي، وجمال بو طيب.
فقد كتب هؤلاء القصة القصيرة جدا منذ 1983، وقد تميز المغرب بوجود مجموعة من الكتّاب قد تخصصوا في كتابة هذا الجنس، وخصصوا مجموعات تحت لوائه، ثم ما لبثوا أن قاموا بأعمال تجريبية كاستخدام تقنيات جمالية وفنية أحدثت اهتزازا في كلاسيكية القصة القصيرة جدا، كالانفتاح على الأجناس الأدبية الأخرى، والتلاعب بالنسق السردي، وإعمال الاستعارة والتشخيص والترميز، فتطور هذا الجنس في المغرب ليس بالغريب، فالكتّاب المغاربة تواقون للتجريب استجابة لعوامل موضوعية.. تاريخية كانت أو سياسية، فإدريس الناقوري يقول في حديث عن التجريب في الأقصوصة المغربية:
(إن العامل الحاسم في هذا التحول، إنما يتمثل في طبيعة الواقع الموضوعي، التاريخي والسياسي، الذي سجل عدة تناقضات تبلورت في صراعات كثيرة) ومن أهم المجاميع التي ظهرت حاملة هويّة هذا الجنس الأدبي: مجموعة محمد إبراهيم بوعلو تحت عنوان (خمسون أقصوصة في 50 دقيقة) ومجموعة جمال بو طيب تحت عنوان (زخة … ويبتدئ الشتاء) ومجموعة حسن برطال تحت عنوان (أبراج) ومجموعة مصطفى لغتيري تحت عنوان (مظلة في قبر) فضلا عن القصص المتميزة كقصتين لجمال بو طيب (ياسين والوادي ـ وتلفزيون) وقصتين لمصطفى لغتيري (مالك الحزين ـ والمومياء).
أما سمات القصة القصيرة جدا، نوضح أن نجاح أي جنس أدبي جديد لابد من حمله لتوصيفات محددة إلى حد ما تجعل له مساحته الخاصة، لذلك لابد من تعريف هذا الجنس الأدبي وفق تلك التوصيفات، أنه جنس أدبي حديث يمتاز بقصر الحجم، والإيحاء المكثف، والنزعة السردية الموجزة، والمقصدية الرمزية، والتلميح، والاقتضاب، والتجريب، والجملة القصيرة الموسومة بالحركية والتوتر، وتأزم المواقف وفق جدث تعرض على خشبة أرضيته مسرحية الباليه المرمزة بالإيقاع والحركة الفائقة في المرونة والإيجاز التعبيري.
انطلاقا من هذا التعريف نلاحظ إن القصة القصيرة جدا فن أشد صعوبة من القصة القصيرة، رغم أن فن القصة القصيرة لا يبرع فيه سوى الأكفاء من الكتّاب القادرين على اقتناص اللحظات العابرة قبل انزلاقها على سطح الذاكرة، فكيف بالقصة القصيرة جدا، وإذا تجاوزنا بعض التوصيفات السابقة في تعريف هذا الجنس الأدبي؛ فحتما اننا لا نستطيع تجاوز معيارين مهمين هما: (المعيار الكمي ـ ومعيار الكيفية والمقصدية) .
فالمعيار الكمي هو الذي يحدد قصر حجم القصة، أما معيار الكيفية والمقصدية فبهما تقوم المقومات السردية، كالأحداث، والشخصيات، والبنية الزمانية -وإن كانت توظف بشكل مكثف- ولابد من الإشارة إلى أن المعيار الكمي يتحقق من التكثيف، واختيار الجمل المناسبة، والابتعاد عن الإسهاب، واللجوء إلى الإضمار والحذف، وتلعب اللغة دورا مهما وأساسيا في القصة القصيرة جدا لضرورة احتواء هذا الجنس الأدبي على اللغة الشعرية، فإدجار آلان بو يقول: (يجب ألا تكتب كلمة واحدة لا تخدم غرض الكاتب) فالتكثيف هاجس كل مبدع يريد الارتقاء بنصه لمستوى العالمية، ويمكننا استعارة مقولة الناقد (جي.ئي.يتس) في كتابه (القصة القصيرة الحديثة) حين وصف هيمنجواي بـ (الرجل ذي الفأس الذي يقتلع غابة كاملة من الإطناب).
على الرغم من خصوصية هذا الجنس الأدبي من حيث قلة الأحداث التي يحتويها، إلا أنه ما يزال جنسا أدبيا ينتمي للسرد، لأننا ننظر للنص على أساس مستوى تنسيق الإشارات السردية لا على مستوى الأحداث، ولذلك فإن شعرية النص السردي لابد أن تتحقق في القصة القصيرة جدا، فالعلاقة بين الشعرية والسردية علاقة العام بالخاص، فالشعرية تهتم بالأشكال الأدبية كافة والسردية ما هي إلا شعرية مقيدة، والعنصر المشترك بين الشعر والفنون النثرية هو أن كلا منهما يشتغل باللغة كمادة أولية، لكنهما يفترقان في كيفية توظيفها، وكثيرا ما يخطئ بعض النقاد في تناوله لعمل سردي بالتعبير: (أن أسلوب السرد يميل إلى الشعرية) وهذا خطأ جسيم لدى مفهوم هؤلاء النقاد..
فاللغة عنصر مهم لبث الروح في القصة، وجعلها كائن نابض في الحياة حتى تبتعد عن الرتابة، فكاتب القصة الجيد يرتكز ويؤكد على أهمية اللغة، كما قال موسى كريدي عام 1965 مؤكدا على اللغة فيقول: (مشكلة قصاصينا إنهم لم يفهموا بعد عبقرية اللغة وطواعيتها، لم يدركوا إدراكا واعيا قدرتها على الأداء والتعبير) فالكاتب حينما يقوم بالتمرد والتجاوز على اللغة التقريرية واليومية فإنه يضعنا قسرا في حالة من الوعي والانتباه، فالقصة المشحونة بلغة عالية قادرة على التصوير بدءا من أبسط أنواع المجاز، لذلك نلاحظ أن أغلب القصص القصيرة جدا والتي حققت حضورا كبيرا مشحونة بالشعرية، والغريب إن من يهاجم هذا الجنس الأدبي يضرب معوله في حائط شعريتها العالي محاولا إخراجها من بيت السرد، وإبقائها على باب الشعر تنتظر إذن الدخول، وآخر يدعي الابتكار بتصنيفها بجنس جديد مغاير، ويمكنني التصور إن النص القصصي سواء كان قصة قصيرة أو أقصوصة أو قصة قصيرة جدا لابد أن يمتلك لغة شعرية عالية، وأذكر بما أطلقه الناقد شجاع مسلم العاني على الشعرية في القصة القصيرة الجديدة حين قال: (إن هذا التيار يقترب من الاتجاهات الجديدة في القصص العالمي المعاصر) ومن يقرأ القصص القصيرة جدا قراءة متأنية ومنصفة يدرك أن الشعرية خاصية ذاتية كامنة في هذا الجنس الأدبي، فالبنية الداخلية للنصوص الجيدة من هذا الجنس تؤهله للسكن في بيت عائلته (السرد) وهو لا يضمن الشعر كنص خطابي مقحم، وإنما يميل لإنتاج نص سردي بتراكيب ذات معان عالية، لتصبح اللغة الشعرية جزءا من النسيج الكتابي، وركنا مهما من أركان بناء القصة القصيرة جدا، وبذلك يحقق هذا الجنس خطابا قصصيا تفاعليا متطورا عما كان عليه خطاب القصة القصيرة مبشرا باجناسية تتناغم مع ما تدعو له دراسات ما بعد الحداثة، فضلا عن تناغمه مع توصيفه الكمي، والمتتبع الجيّد لهذا الجنس يكتشف أنه تطور طبيعي للقصة القصيرة والأقصوصة، فلو عدنا إلى الستينيات لوجدنا القصة القصيرة عرّفت هذا الاتجاه الشعري، فالدراما والشعر راحا يتناغمان في خلق تجربة جديدة، وبذلك انعطفت القصة القصيرة نحو التجريب والحداثة حين اشتغلت على الثيمة الشعرية تضمينا كما فعل القاص أحمد خلف في قصته (نزهة في شوارع مهجورة) في مجموعته التي تحمل ذات الاسم فضمن قصيدة الشاعر محمد الماغوط على لسان بطل قصته، ومن القصص الستينية التي اشتغلت بلغة شعرية قصة (الصوت العقيم) لعبد الرحمن مجيد الربيعي في مجموعته (السيف والسفينة) فالقصة القصيرة في تجربتها أدخلت اللغة الشعرية إلى النص، في حين أن القصة القصيرة جدا اعتمدت النسيج الشعري في تكوينها، وتبقى الكلمة الفصل لهذا الجنس الأدبي فيما سيحققه من حضور في الوسط الأدبي .

About The Author

Contact