×

أحرِقوا الصريم .. قصة قصيرة بقلم://الدكتور مديح الصادق

أحرِقوا الصريم .. قصة قصيرة بقلم://الدكتور مديح الصادق

أحرِقوا الصريم .. قصة قصيرة
بقلم://مديح الصادق
الله أكبر .. الله أكبر، تعالت أصوات ركاب الباص الثمانية بعد أن أفاقوا من صدمتهم،، تفقدوا أنفسهم، ومن معهم، الحمد لله، أمعن كل منهم بوجوه مجاوريه علامة الارتياح، مرت بسلام، ألا تبَّاً لها تلك الكثبان الرملية المتحركة مع الريح، تغلق الطريق الصحراوي على غفلة، طريق ضيق يمتد من طرابلس العاصمة ، ساحل الأبيض المتوسط حتى ( غدامس ) تلك المدينة الأثرية المتربعة على قلب الصحراء، عند حدود الجزائر في الجنوب الغربي، سبعمائة كيلو متر تجتاز السهول الحمراء، صعودا على قمة ( نفوسة ) الجبل الغربي ذي التربة الصخرية، الزيتون، اللوز، التين، الأمازيق وشدَّة مراسهم، نزولا بين تلال لا تتنفس إلا ثعابين قاتلة، وحوشا برية، أشباحا يروي قصصا مثيرة عنها السكان بشهود أحياء .

ألم شديد في ظهره، اعتدل قليلا، مسح بمنديله عينيه ووجهه، ريح النياسين لا تجلب إلا النتن والغبار، تلمس حقيبة بجانبه، فتحها بارتياح، مجموعة من المغلفات، رحلة تتكرر كل أسبوع، سبع ساعات أو أكثر ليلا؛ هربا من حر الصيف، ما من حيلة فعقد عمله مع الجامعة لا مجال فيه للرفض، الكلَّية بحاجة لأستاذ نحو وصرف، ومعها بلاغة ونقد أدبي، وعلم الأسلوب، أصول الكتابة، وشيء من مبادئ الموسيقا ؛ وإن كان مسرحيَّاً، لايهمّ، على الأقل يملك حسَّاً فنيَّاً، محاضرات نظرية تحاشياً لمن يرى أن الموسيقىا حرام، وهو أساسا لا يجيد إلا النقر على الصينية عندما يحلو له الجو .

ساعات قلائل تفصله عن موعد الامتحان النهائي، الخامس عشر من حزيران، الأسئلة بحوزته، لا بد من وقت لتصويرها بالجهاز البطيء؛ إن كان له مزاج وحبر كاف، مائة طالب هو قسم اللغة العربية، جلُّهم من الإناث التاركات من زمن، أفراد شرطة، وموظفين يبغون تعديل الرواتب لا غير، تم حشدهم كعدد يبرر المطالبة بفتح الكلية التي جاهد من أجلها شيوخ القبائل، وبعض من أصدقاء الأخ القائد، واللجان الثورية ، لا مشكلة إلاَّ بكادر التدريس وهو مقدور عليه ما دام هناك حكَّام بظلمهم يُصدِّرون الكفاءات للجيران، والأحباب.
كيف حالك يا أستاذ؟ صوت ناعم خائف خجول، الركاب والسائق نزلوا رغم العاصفةة يفحصون العجلات، همس في أذنه من المقعد الخلفي المحجوز دائما للنساء، مألوف لديه؛ بل مُتشبِّع به، لم يلتفت لئلا يثير الشكوك، جريمة كبرى هي أن تُحدِّث امرأة في محل عام، حتى لو كانت طالبة وأنت أستاذها، داخل الحرم الجامعي أنت محاط بالمراقبين من كل اتجاه، أوَّل التعليمات: لا يسمح للأستاذ بالانفراد مع الطالبات، كل ُّشيء في قاعة المحاضرات، مفهوم؟ نعم؛ أمغفَّل أنا أخالف الأوامر وأخسر عقدي؟ لا .
مريم، طالبة السنة الرابعة المتميزة، الواثقة من نفسها، الطموحة بلا حدود، إنني أرىى نفسي فيك، لا تخذليني أرجوك، مريم تذكَّري الماجستير، الدكتوراه، قصائدك الخجولة التي بعثتُ فيها الحياة، كما قلتِ يوما لي، غلطة العمر إن لم تفعلي، أُقسِم أن صناديقي أمزِّقُها بين يديك، هو الموت بعينه أن تدير ظهرك لطالب علم يمدُّ كفَّاً غضَّة يستجديك، إن كنت كهذا إذن نبع مالح أنت، أو غمام خاصم الغيث، وكرمة بلا ثمر .
آه، ألا تدري أنَّ ابن عمتي قال كلمة لوالدي حين كنتُ بالسن الذي يُخاف فيه علىى الفتاة، وعدتُهم حينها بالوفاء بعهدي حتى أكمل دراستي، هدنة كانت، لكنني خسرت التسويف، لقد تمت مراسيم العقد ليلة أمس في العاصمة حيث يُقيم، متزمِّت، حادّ المزاج، أزاح من قاموسه الضحك، أو حتى مجرد الابتسام، عورة يراه، اختلطت الكلمات بالبكاء؛ الكارثة، المصيبة أنه ألبسني الخمار، كيف لي أن أكمل الماجستير وكان شرطه: لا تفكِّري بالتعيين، ميسور الحال أنا، موفورة عندي نعمة الله .

لا يعلم إلا الله من أين يأتي بهذا المال؟ جاهل، أمِّي بلا وظيفة، همُّه السفر إلى تونس دوما والتجوال، الله أعلم من أين ؟ المهم حافظ على نفسك أرجوك، لقد سمعتُ همساً، أفكارك التي تمرِّرها من خلال المحاضرات غريبة جداً، تثير الشكوك، أفهمها وأدرك مغزاها، أتعاطف مع ما تريد، أراه حلما بعيد المنال ، حلما جميلا، حذار، فقد تلقى مصيرا، هدر الدم .

اتجهت الأنظار إليه، غيَّر دفَّة الحديث، لابد من وصولنا بسلام قبل وقت الامتحان، بضع ساعات تفصلنا، تلال الرمل ما زالت جاثمة على الطريق، السماعة في أذنه، مذيع الأخبار: بعد صلاة الفجر تغير الريح مسارها إلى الشمال الغربي، لم يخف ابتسامه بحذر .
عادالشيخ ( البهلول ) بجانبه، متوسط القامة، مربوع، صبغة الأحمر لم تُخفِ عروقق اللحية البيضاء، بسروال قصير يرفعه بين الفينة والأخرى، على الجبين سيماء من أثر السجود، مسبحة طويلة، أدعية، تسابيح، آيات بصوت خافت ليخفي جهله في الإعراب، سبحان الله، إنه هو نفسه، في كل سفرة يقابله، تذكرتُ أنَّ له ابنة تزوجت في قرية عند خط الحدود مع الجزائر، عند المعبر الحدودي، لكن لماذا يستبعده الشرطة العسكرية من طابور التفتيش، حتماً يرونه بعيدا عن الشبهات، والتفتيش عن المخدرات .
الحمد لله على السلامة أستاذ، كل شيء بأمره، له الحمد على كل حال، وإن كانن مكروها، ما هو إلا امتحان لبني آدم، تذكير بأن الله بأمره النجاة، وبيده الموت والحياة، مساكين، لا يتعظون، إن الله غالب على أمره، وهو دوما مع الصابرين .

حافلة أخرى، ثالثة، يعرف بعضهم البعض عدا سواحا أجانب استهواهم ما قرؤوا عن الصحراء، وبدوها، وبعض الآثار، هناك في ( غدامس ) بانتظارهم شيوخ يجيدون مفردات لغات ركيكة، تُسيِّر الحال لقاء أجر زهيد .
الفجر، الفجر صاح بأعلى صوته الشيخ، اصطف القوم بلمح البرق، تربة رملية تغوص بهاا الأقدام، أشواك تدمي الجباه، لكن الصلاة هنا فيها أجر كثير وثواب؛ إمّ الصلاة، يا أستاذ، تلفَّتَ حوله، لا غيره حتما هو المقصود، كم أنت ذكي أيها الشيخ! تنازلتَ عن الإمامة طوعاً، صلاة الفجر إجهار، وفي الإجهار تنكشف العيوب، النحويون دائما بالمرصاد، لا عليك، أقيموا الصلاة نادى، تراصّوا جزاكم الله خيرا، القبلة بهذا الاتجاه، الدعاء، اللهم أزح عنَّا عوارض الطرقات، أزل الغمة عن عبادك الصالحين .

الريح غيَّرت مسارها، اشتدت أكثر، شماليَّة هي الريح، نقيَّة ريح الشمال؛ تلاشت تلال الرمل، وانفتحت الطرقات، تهللت الأسارير، تعالى التكبير، دعاء الصالحين مستجاب، والله لأنت صالح، يا أستاذ، ألا زرتنا ودعوت لبناتي الخمس العانسات، وقد يكون من نصيبك واحدة منهن، والدة مريم همستْ، رعاك الله، بيتنا مسكون لعل ليلة تبيتها فيه تدعوهم للرحيل عنا بسلام، أشجعهم كان الشيخ ( البهلول ) ستنال الجنة لو زوجتني ابنتك على سنة الله والرسول، ثالثة الأثافي ويستقر القِدر، أولاد عمك نحن، ذرية لأبي زيد الهلالي، أما أخبروك؟ على بركة الله ليصعد الجميع في المركبات .

استجمع الأستاذ قواه، اللحظة لا تتكرر مرتين، موقفه يؤهله للإفتاء، أيها الناس، جال بنظره بكل الاتجاهات، كما هم الخطباء، أتعلمون لماذا تكدست تلال الرمل في تلك البقعة بالذات، فأغلقت علينا الطرقات، إنها إرادة الله، هتف الشيخ، أضاف آخر: عقاب منه لأن الناس ارتكبوا المعصيات، والنساء خرجن بلا حجاب، والشباب انشغلوا عن العبادات بالمغريات , و .. .و …
انظروا خلفكم، أيها الصالحون، علامَ تكدست ذرات رمل خفيفة تذروها الرياح؟ أليستت شجيرات الصريم تجمعت حولها الرمال؟ أوتاد هي للعوارض والعقبات. غيّر نبرة صوته وفق مقتضيات الحال واعظا: مَن اقتلع صريمة من الطريق غُفِرَ له بعدد أشواكها من ذنوب .
البدوي لا يستغني عند السفر عن اثنين، السكين، وولاعة النار، شمر الرجال السواعد،، أشهروا السلاح، اقتلعتُ عشرين فحسب، ما زال بذمتي كثير من الذنوب، تشاجر اثنان، سكين أعارها لصديقه فأساء استخدامها لصالحه، لا بأس يا أخوَيَّ فالأجر مناصفة بينكما، عجوز توكأت على جذع قاربت الثمانين، أعرني سكينك يا أستاذ، لعلِّي أمحو بها بعضا من الذنوب، مباركة منك السكين .
النساء يختلسن النظرات من خلف النوافذ، كلبوة في قفص هي مريم ماذا بوسعهاا الفعل؟ حتما سيرمي يمين الطلاق عليها ( مفتاح ) إن هي تجرأت وشاركت الرجال في اقتلاع الصريم، ستسري الأنباء إليه حتما فالعاطلات يجدن متعة في نقل وتهويل الإشاعات، وتنسج عنها قصص وروايات، سيعزف عنها حتى الذين كانوا لنظرة منها يطمحون .

في جيب أمِّها ولاَّعة تبغ، وفي الحقيبة حزمة أوراق من ناقلات الأكاذيب، الولاَّعة، الأوراق، أكوام الصريم ، والخِمار؛ ترجَّلت مريم، شقَّت الصفوف بكبرياء وشموخ، ألسنة اللهب أجلت العتمة.

الطريق ابتلعته العجلات، خِمار مريم شظايا نشرته الريح في الأرجاء، مات الصريم في الطرقات …

About The Author

إرسال التعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

Contact