×

الفن الزجاجي… بقلم// الأديب والروائي د. محمد إقبال حرب/ لبنان

الفن الزجاجي… بقلم// الأديب والروائي د. محمد إقبال حرب/ لبنان

الفن الزجاجي

 

لم تعد زوجته إلى المنزل مذ أن غادرته بالأمس مع حقائبها التي رافقتها دموع ساخطة متمردة حين أحست بالغش والخداع كما تقول، بعدما اكتشفت سر زوجها. هو لم يكذب عليها لكنه لم يفشِ سراً حمله منذ سنوات طويلة. بل منذ وصوله الى هذه المدينة قبل عشرين عاماً. هي لم تفهم ولن تستطيع اعتبار ما جرى على أنه سوء تقدير..

كيف له أن يفشي مثل هذا السر الذي نغَّص عليه طفولته وهدم ثقته بنفسه بل دمر فيه كينونة كبريائه. لقد اضطرت عائلته ان تأتي الى هذه المدينة تحت وطأة الضغوط الاجتماعية التي زرعت في ثناياه الكآبة… نعم لن تفهم ولن يشرح، لن يفجر بركاناً عمل جاهداً لاطفاء لهيبه.

بدأت الحكاية يوم أمس عندما تطايرت شرارة من سيجارة على عينه اليسرى. ويبدو أن قطعة من التبغ تطايرات معها ودخلت تحت الجفن مما استدعاه بطريقة لا شعورية أن ينزع عينه الزجاجية لازالة الجسم الغريب الذي يؤذي الجفن…. هناك وقفت زوجته مشدوهة إذ رأت زوجها السليم المعافى يخرج “عينه” ويضعها على الطاولة… محجر العين بدا ظلمة عميقة من حزن… تلمع في باطنها نتوءات مخيفة… تسمرت مشاعرها مع استغراب واستهجان لا يوصفان إلى أن استدركت الأمر عندما قال لها : فقدت عيني منذ كان عمري عشر سنوات نتيجة خطأ طبي. واستعلمت هذه العين الزجاجية للتجميل.
لم تكترث الزوجة كثيراً لشرحه، كانت صدمتها كبيرة أن تتشوه صورة زوجها دون أي مقدمات…. انتفضت منها امرأة غاضبة قائلة: لماذا لم تخبرني بأنك أعور… لماذا غششتني؟
أثارت كلمة أعور ذكرياته الأليمة… فجرت أحاسيسه، نبض قلبه بسرعة، أخذ يتذكر زملائه في المدرسة وهم ينادونه بكل بجاحة ولؤم : أعور… أعور
سكن قليلاً بينما تمر أمامه صورة الطفل الذي تنهشه نظرات الرأفة حينا والاشمئزاز اخرى. ها هو يستعيد أصواتا قاتلة بتعابير مؤذية لاحقته سنوات طفولته.. كان دائماً ما يشار إليه ” بالولد الأعور” . نعم لقد نسي الناس اسمه واصبحت عاهته لقباً قاتلاً. تمالك نفسه ازاء ذكرياته خوف أن تحطمه ثانية ويعود الى انعزاليته ووحدته وعاد من ماضيه إلى زوجته التي أخرجته ذات يوم من وحدته يوما دون أن تدري وقال:
انا لم أغشك… لم أنتبه بل لم اعتقد بأنه علي إخبارك… شخصيتي لن تتغير ان كان لي عين او اثنتان… بل كنت أخاف منك أن تحطميني كما فعل كل البشر…. وها أنت تفعلين
ردت الزوجة: بل من حقي أن أعرف منذ البداية بأنك معاق.
انتفض زوجها صارخاً بحدة متسائلاً: معاق!!! لا، لا لن اسمح لك بتحطيمي … أنا بشر … أنا أحبك … لكن لا تقتليني بلا سبب . أنا لم أغشك وها أنت تجرحينني

ماذا! لا تعتقد بأنك غششتني…. أنت كاذب ومخادع ومن حقي طلب الطلاق،

أنت لا تعرفين بل لا تفهمين كم عانيت طفلاً ومراهقا حتى وجدت من صنع لي هذه الزجاجة الملونة التي انقذتني من مسشفى الامراض العقلية. هذا الفن الزجاجي كتم أصواتاً مؤذية كما أرسل في أعماقي ألحانا علمتني معنى الحياة. هذا الفن الزجاجي قد وضع ستاراً من ً.الجمال على ما لا يحبه البشر… أنت لا تفهمين معنى الاستهزاء بمشوه لا يملك من أمره شيئا
قالت الزوجة: نعم لا أستطيع أن أفهم.. أشعر بأنني خُدعت، واذا ما خدعتني مرة فقد تخدعني أخرى.
لا، لا فأنت كاذبة … لم تعجبك حقيقتي، لم أعد وسيماً… ها انا قد أصبحت رمزاً للبشاعة والكراهية.. لا لن أضع العين الزجاجية مرة أخرى …. سأتخلى عن الفن الزجاجي سأرميها بعيداً، فليحبني من أرادني لشخصي أو فليرحل إلى الجحيم.

خرجت بعدها زوجته ولم تعد… وهو لم يسأل عنها بعدما شعر بقوة ارادة لم يحظَ بها قط.

مرت الأيام وأصحابه يتساقطون الواحد تلو الاخر…. يبست شجرة المودة في عالمه وجاء خريف حياته قبل خريف عمره فقرر أن يتوقف عن رؤية العالم الكاذب الذي يحب المظاهر. لم يدرك بل لم يعترف أبدا بأنه كاذب مخادع إذ يتساءل لماذا عليه أن يشرح للناس موضوع فقدان عينه وهم لا يتكلمون عن أمراضهم العقلية وعاهاتهم المتدارية في أجساد وهنة.
قرر أن يتخلص من عينه السليمة التي تجبره على رؤية من لا يستحقون النظر اليهم، بل إن عدد الذين يستحقون نظرته قد رحلوا إلى ديار الحق. لا يريد أن يرى بعد اليوم من كره صورته بعين واحدة وناداه “أعور”. أمسك زجاجة أسيد ورماها باتجاه عينه السليمة بكل سعادة وفرح، كانت حارقة مؤلمة لكنها ستنقذه من شرور بني آدم كما تمنى. انهار بعدها من فرط الالم ونقل الى المستشفى. اصابته صدمة جديدة عندما علم بأن عينه لم تصب باذى إذ أن ردة فعل جفنيه قد حمته. فكل ما أصابه احتراق بسيط للجفن العلوي …

لا يزال في المستشفى حيث اقتنع بالإبقاء على عينه السليمة لكنه يصر على مواجهة العالم بعين واحدة تاركاً الأخرى منكمشة مشوهة لا تزينها زجاجة ملونة أخفت ذات يوم قسوة البشر وكراهيتهم تحت ظلال ألوانها. يوم باتت ذكراه كئيبة

من كتاب يعيش النظام
محمد إقبال حرب

About The Author

إرسال التعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

Contact