×

جماليّة الخطاب الجندريّ وإشكاليّاته في ديوان (أحضان الوجع) للشاعرة هدى عزّ الدين…قراءة الناقدة زهرة خصخوصي

جماليّة الخطاب الجندريّ وإشكاليّاته في ديوان (أحضان الوجع) للشاعرة هدى عزّ الدين…قراءة الناقدة زهرة خصخوصي

جماليّة الخطاب الجندريّ وإشكاليّاته في ديوان (أحضان الوجع) للشاعرة هدى عزّ الدين

قراءة الناقدة زهرة خصخوصي.

تصدير:

” بين الذّاكرة، وممارسة اللغة يقف القارئ أبصرَ من الشّاعر بشعره… فيملأ الفراغات، ويعيد بناء السّياق، ويتعرّف على قصديّة النّصّ.”

آمنة بلعلي، نحو بديل تأويلي لنقد الشّعر، مجلّة الخطاب، عدد2، منشورات مخبر تحليل الخطاب، جامعة تيزي وزو، الجزائر،

2007، ص43.

ارتبطت نشأة النّسويّة في سبعينات القرن الماضي (القرن العشرين) بالحركة النّسويّة في الغرب، المناهضة لتهميش الوجود النّسويّ وقضاياه أمام تنامي الفكر الذّكوريّ، الأبويّ ( الباتر يكيّ)، المتمرّدة على قيود هذا الفكر ومرجعياته الاجتماعيّة والدّينيّة والسّياسيّة، وقد برز اهتمام النّقد بالأدب النّسويّ، توجّها نقديّا مخصوصا دقيقا وإشكاليّا، باعتباره بحثا في قضايا المرأة في النّصّ الأدبيّ سواء كان الكاتب ذكرا أم أنثى؛ لكن تصبح سمة الجندريّة أبرز، وأكثر استقطابا لاهتمام النّقّاد حين تكون الكتابةُ عن تلك القضايا بقلم كاتبة أو شاعرة، ما يجعل البحث في هذه الكتابة، مواضيعَ وجماليّةَ خطاب، أشقّ وأعذبَ، في آن؛ لذا يجد القارئُ النّاقدُ الحديثُ نفسه وهو يلج الكون الشّعريّ لديوان (أحضان الوجع)(١)، للشاعرة المصريّة هدى عزّ الدّين، مسكونا بسؤال الجندر، وهو سؤال يتّسع مدار البحث فيه كلّما تنامى مسار قراءة القصائد الذي يجلو القارئ عبره جندريّة مكثّفة يعاضد فيها جنسَ الكاتبة توجُّهُها في الخطاب الشّعريّ رسما لصورة المرأة ووجوه تعالقها والرّجل ذاتا أنثى متلفِّظةً مخاطِبة وذاتا ذكرا مخاطَبة متقبّلةً.

صورة المرأة في الدّيوان:

ترسم الشّاعرة هدى عزّ الدّين للمرأة، ذاتا متلفِّظة في العدد الأكبر من قصائد ديوانها، صورةً جوهرُها تحوّل من الضّعف إلى القوّة، مع تنام تدريجيّ لهذه القوّة يساير التّنامي العدديّ للقصائد في الدّيوان، كأنّنا أمام مسار شعريّ يتلوّن بألوان الأنثى المتلفّظة به، هموما، ومشاغلَ، واختلاجات، وانفعالات، ويرسم عوالم دلاليّة شعريّة بدؤها ومنتهاها العوالمُ النّفسيّة الوجدانيّة المخصوصة التي تسكن الذّات المتلفِّظة تلك.

1- الذّات المتلفّظة الشكّاءة البكّاءة:

نلفيها في صورة المرأة المنكسرة، في القصيدة الثّانية من الدّيوان (أصابع أكلها الحبّ):

“ما انا غير أمٍّ للحقيقة

وأبٍ يجمع أموالا للحبّ

فقدني الكلام

نام قتيلا على طرف دنيا

كطفلة عجوز تأكل أصابع اليأس”

وهي الأنثى العاشقة المكبَّلة بالوهن، في قصيدة (ومضات من نبض) (الصّفحة٢٥)

“أقيم جبال الحب

ببحر الرّمال المتحرّكة

وحروف الوهن القوية

تبني قاعدة الشتات”

فالعاشقة الضّاجّة بضعفها، في قصيدة (سندباد العشق) ( ص 28)

“أيّها الهرّ كثيف الفراء

كأسد في عرين النّساء

كلّهنّ أميراتك وأنا الضّعيفة”

وهي الأنثى الرّهيفة المتلظّية توقا إلى وصال، في قصيدة (الدّهشة) (الصفحة الثلاثون من الديوان)

“الدّهشة في العيون

أنت ساكنها

أيستطيع كلّ ما بي الحج إليك؟”

ثمّ نلفيها تتحوّل إلى أنثى تغرق في أتون الألم، صادحة بوصف حالها ثائرة خائبة، في قصيدة (تهجّد خيبة) (ص٣٣)

“ثورتي تنام على فراش الخيبة

وساعدي كسرته قلّة الحيلة”

فامرأة مغرورة كسولة عاجزة، في قصيدة (هذيان) (ص ٣٧)

“ما أنا إلا ذنب

صنعته يد الدّنيا

لا ادّعي القداسة

ولا النّبوّة

سألت الرّبّ…

بأكفّ الخوف تذرّعا

أمسح دمعتي بوجه التّراب

ما أنا سوى أنثى

ركبت قطار الغرور

وقطعت المسافات

بأقدام الكسل والعجز”.

الشّاعرة هدى عزّ الدّين في رسم صور الذّات المتلفّظة الشّكّاءة البكّاءة هذه، تعمد إلى أسلوب التّأكيد، نفيا مقترنا بحصر، لجعل المتلفَّظ إليه يجد إثباتا مؤكّدا مقنعا بفحواه، بفضله تتجاور قوّة الخطاب الشّعريّ والضعف الأنثويّ في الخطاب الجندريّ، يعضده الحضور المتكرّر لضمير المتكلّم (أنا) الذي يتماهى واللّغة تارة، كقولها في قصيدة (قهقهة الموتى) (ص٤٧):

“أنا المفعول المطلق أجيد الثقة

والفاعل مرفوع الأمنية،

ذبحه القدر بفعل إنسان”

ويعانق المجازَ تارة أخرى، وهو ما نجده في قصيدة (أنين الحلم الأبيض):(ص٥٦)

“شهيقي دخان

وزفيري صلاة الحرمان

البعد كاهن مقدّس

صمت يثرثر

على وسادة الوهم

أنين الحلم الابيض

يجلدني بسوط عذاب

وأنا امرأة من وراء الزمان

كزهرة الريحان عشقا أتنفس”

لتشكّل الشّاعرة بكلّ هذا رؤية مخصوصة للقول الشّعريّ النّسويّ تواجه فيه الشّاعرة مرايا همومها ومشاغلها وهي تتجمّل باللّغة الشّعريّة لتعبّر عنها.

2- الذّات المتلفّظة بين الجموح والشّدّة:

مع انتصاف الدّيوان، نلفي الذّات المتلفّظة في أغلب القصائد تعانق صورة المرأة العاشقة المتحرّرة من قيود الوهن، والعجز، والشّكوى، تمتطي صهوة البوح رافعة رايات الجموح.

تقول في قصيدة (لبيك مولاتي) (ص٦٣) معتدّة بأنوثتها:

“دُسَّني حلما على وسادة الزّمان

لننعم بغفوة ساحرة

ظلالها أوتار العود

عندها سأغنّي بأنوثتي

وستركع حتما عند شدوي

يا ماردَ كلّي ونبضي”

وتشدو في قصيدة (عرس الخيال) ( ص٦٤) معتدّة بعشقها:

“كتاب عشق أنا

ومتعة عناق الحروف”

ثمّ تعلن في قصيدة (أسمُك أنت؟) (ص٦٧) سيادتها في العشق:

“لا خجل على بابك اليوم

فأنا أنثى طفح بها الكيل

سأرسل لك رسالة أوّلها

أحبّك وآخرها قتلت الفراق

أنا أنثى لوّنتها الأيّام بكلّ لون

وفقدت الأحمر

ليلي طال بصورتك في الوسادة

لا أجيد لعبة الإعارة

أكون أو لا أكون أعلنها لك على مسمع

السّادة

ببيت القمر”

حتّى تشتدّ وتيرة تشكيل صورة المراة العاشقة المعتدّة بعشقها، الجامحة نحو مجاهيل السّطوة العاطفيّة في العديد من القصائد اللّاحقة حتّى انتهاء الدّيوان، كقولها في قصيدة (اضواء من رحم الاحتراق) (ص٧٧)

“أنا الشّمعة الأولى بطريق الخطأ

والزّيت الأصفر لقنديل الحبّ

تبقّى خيطي المحروق

وبعض انصهاري

الشّمعةَ الثانية…

أنا يااا سيّدي ومولاي

شمعة من رحم الاحتراق

طفلة عمرها قرن وعام”

وإنشادِها في قصيدة (كفى تملقا)(ص٨٦)

“فأنا الرائدة الغنية بالمعاني الفريدة

والحياء الفاجر بوجه الحقيقة

أنا شعب نام فوق عذاب الخيال

أو متمرد كسر أسواره لا يجيد القتال”

وتَغنّيها في قصيدة (أيها الغريق) (ص٨٧):

“وأنا الشعر يكاتبني

يصوغني قلائد

يغزل لي ثوب العرس

………..

أميرة مسحورة أنا

بتعويذة الحرف

………

أنا… طيف خيال

مكتوب بخط

المجاز

انا الشغف الساهر

ببيت القمر”

ثمّ تنكفئ في قصيدة (نحت في جدارية حب) (ص١٠٣) على رسم صورة جامعة للمرأة في بداية الدّيوان والمرأة في المنتصف الثّاني منه، هي صورة المرأة العاشقة المتقلّبة على جمر الضّعف حينا وعلى مخمل البوح الرّهيف حينا آخر، تقول الشّاعرة:

“أنا أنثى تختلف بين

أحضان الحب

أنا عمر مضى بالبحث عنك

………

نعم، يا سيّد العشق

أنا بين المجلسين

مناصفة

وهم أباح الحريّة وعدالة

تخاف الإنصاف

أنا مازلت الدّجاجة

التي لا تبيض

وهيام أحمر في ليالي عتمة”

وتختزل هذه الصّورة المنصفة المرأةَ في وجودها كائنا عاشقا، أسيرَ واقع باتريكيّ يجعله يكابد مقصلة الصّمت في محراب الحبّ، متمرّدا على القيود، جامحا نحو البوح معتدّا بقوّته، في قصيدة (سيدة الصقر) (ص١١٤) التي تختم بها الدّيوان، منشدة:

” فأنا النرجسية بالعشق

وسيدة الصقر”

هكذا تشكّل الشّاعرة هدى عزّ الدّين صورة المرأة عبر صوت الذّات الانثى المتلفّظة في ديوانها (أحضان الوجع)، متصعّدة من سحيق الضّعف والوهن إلى ذرى الجموح بوحا وسيادة للذّات في مواجهة سلطة الرّجل، الذّات المخاطَبة في القصائد، كأنّها بهذا التّصعّد تكتب سيرة عاشقة، وكأنها تنزع إلى تأكيد قول (هيلين سيكسوس) في حصتها من كتاب نظرية الأدب النسوي ل(ماري إيغلتون): ” الكتابة الأنثويّة المنشودة ككتابة تتجاوز السّلطة الذّكوريّة في مغامرة البحث عن الذّات.”.

٣– الجندريّة وجماليّة الخطاب:

تبني الشّاعرة هدى عزّ الدّين خطابها الشّعريّ على أسّي المعجم واللّغة الواصفة، يطغى الارتكاز على المعجم على القسم الأوّل من الدّيوان، بينما تبرز اللّغة الواصفة في القسم الثّاني منه، في تساوق مع استقلال كلّ قسم بصورة مخصوصة للذّات المتلفّظة في هذا الدّيوان.

معجم السّباب: برز هذا المعجم في القسم الأوّل من الدّيوان، وقد انتثر في مجموعة من القصائد، هي التّالية:

في قصيدة (حصاد مذموم): “اصمت أيها الغبي”.

في قصيدة (خلف ظلي اشتعالك): “لا تشدُ أيها العنيد”.

في قصيدة (لقاء من غير موعد):

“يا مجنون، ما العشق إلا ليلة من الدّهر

فاسكب الخمر فوق جسد اللّقاء

أثملني الصّمت وسياط اللّهفة

تجلدني”.

في قصيدة (عجائب العشق المرغوب) : “أيها الخائف”.

في قصيدة (أذان الكذب): “أيها الوسواس”.

في قصيدة (الحلم السجين): “أيها الجمهور النائم بسجن السراب”.

في قصيدة (ضوضاء من صوت المجاز): “أيها الضوضائي”.

في قصيدة (قل): “يا رجل العشق النازق”.

في قصيدة (سندباد العشق): “يا رجل الخيال”.

في قصيدة (كفى تملقا):

“أيها االلاعب على قيثارة الكلمة

لا تنثر فراشاتك المسمومة

فوق زهور الربيع البريء. “

معجم السّباب المنتثر في القسم الأوّل من الدّيوان يثقل الخطاب الشّعريّ بصورة المرأة المضطهدة نفسيّا وعاطفيّا، المثخنة بسهام الرّجل شريكا في الوجود، منشودا شريكا في العشق والهيام، الثّائرة على مواجعها ومُوجِعها.

– اللّغة الواصفة:

تعمد الشّاعرة في القسم الثّاني من الديوان إلى توظيف مصطلحات بلاغيّة في صور مجازيّة تصف واقع اللّغة المنهكة المتمرّدة، كأنّها تجاري واقع الذّات المتلفّظة وبه تصدح؛ فنقف على مصطلح الكناية، ومصطلح الاستعارة، والإبداع، والكلمات، والحروف، والمجاز، مثلما الحال في هذه النماذج:

(مهمش الكرامة):

“كناية الفن تحت نعال الكذب

والاستعارة تطلب الإعارة

بدولة الثراء الفقير

مع وافر التقدير الهزيل

نصفق بأكف النفاق

تجوع الكلمة

وتأكل كسرات الزجاج

بمنقوع نار”.

قصيدة (ضوضاء من صوت المجاز):

“صعلوك يتسول الكلمات

من أيادي الإبداع

سأل الأقدار

أن تصنع له ثوبا من المجاز”.

قصيدة (كلمة):

“ثرثرات ولهى

سرقت منابت الحروف

أجهضت ثراء الهجاء

طعن قلب البحر بالكلمات

ثمل الغرقُ مسكورَ الحرف

رام الانعتاق”.

باللغة الواصفة ترسم الشّاعرة صورها الشّعريّة، وتقدّم رؤية نقديّة للواقع البلاغيّ المعاصر، واقع فيه تمسي الاستعارة حِلية تُعار للنّصّ طلبا للجمال، وتُفرَغ موضوعات القصيد من الثّراء والعمق، وبالمعجم تبدو اللغة جامحة لا تلين، يتساوق فيها توهجُ القول الشّعري مع توهّج الانفعال المكابد، عشقا وتوقا وحنقا.

وهو- أي القول الشّعريّ- في هذا الدّيوان، بسيماه الفنّيّة المخصوصة يضعنا أمام إشكاليّات متنوّعة منها:

هل منبع الجندرية في هذه القصائد جنس الشاعرة الأنثى أو طرحُها قضايا المرأة التي تطمرها الأعراف والتقاليد في خنادق الصّمت والتّهميش؟.

هل تحمل هذه الجندرية أفكارا ورؤى أو هي مجرّد انفعالات شعريّة تحكمها لحظات التّوهّج آن الكتابة؟.

هل يرسم تنامي الرؤية الإبداعية الشعرية في الديوان، خطاطة تجربة قول شعري أو هو تتالي قصائد اعتباطي؟.

هل تشكّل الشّاعرة بناء الدّيوان عن وعي بمسار تصاعديّ للرّؤية الجندريّة، يشترط ارتقاءً بجماليّة الخطاب الشعريّ، أو يشكّل الدّيوان خارطة عمر القصيدة فيه منذ الخطى الأولى للتّجريب الإبداعي؟.

هل تكتب الشّاعرة الدّيوان؟ أو الدّيوان يكتب الشّاعرة؟.

هل الشّعر مرآة تراكم شعر حديث في الذّاكرة يفلت منها أحيانا فيحضر تناصّا أو استرفادا؟ أو هو نافذة على رؤية مخصوصة لمفهوم الحداثة فكرا؟.

________________________

(١) هدى عزّ الدّين، أحضان الوجع، دار ميتابوك للنّشروالتّوزيع، ط١

About The Author

Contact